راقبوها وهي تشتعل… هل اقتربت نهاية عمر إسرائيل؟

د. لينا الطبال
في الحكاية الإيرانية الحرب لا تنتهي بالهدنة، بل تبدأ بها. عندما يخفت صوت الرصاص، وتصمت الصواريخ. وحين يجلس الجميع لترتيب الأوراق، تُخرج إيران آخر ورقة من تحت الطاولة… وعليها قنبلة: “بووووم”.
لا شيء يضاهي صوت الصواريخ وهي تشق سماء تل أبيب، رسائل من بلاد فارس اسمها عماد، قادر، خيبر، فتاح1 كلها اُطلقت، عبَرت السماء… وأخرى فرط صوتية ذو خصائص مجهولة، قوية وثقيلة لم تطلق بعد فتاح 2 وسجيل…
إيران، كعادتها، لا تُطلق كل شيء دفعة واحدة، تُطلق نصف الحرب، وتترك النصف الآخر للتفاوض.
عندما يقترب وقف إطلاق النار، تقترب الضربة. لأن من يُنهي الحرب، هو من يُدير الجلسة.
وإيران تعرف ذلك جيدا…
لكن لا تقلق “إسرائيل قوية”، هكذا يقول الإعلام العبري… نعم، قوية جدا لتهديد كل من حولها، وضعيفة بما يكفي لتنهار أمام كاميرا آيفون في غزة.
لأول مرة، يرى الشعب العربي في الصاروخ الإيراني شيئا يشبه الأمل، أو على الأقل يشبه العدالة المؤجلة… العالم العربي المنهك، الممزق، الخائف من ظله يصفق، ويتفرج… ليس بالضرورة من انصار طهران، لكنه سَعيد بمشهد الغطرسة الإسرائيلية تترنح، ولو للحظة.
انها تمطر، نعم، لكنها ليست غيوم حزيران هذه المرة، تل أبيب تضاء كل لليلة بالنار وبالحديد… انظروا اليها تحترق.
قال لي صديقي هناك، من رام الله، وصوته يختلط بضجيج الفرح: “الناس تحتفل في الشارع، في كل مكان… لم نرَ تل أبيب قريبة هكذا من قبل، قريبة ومذعورة”. شعب الله المختار يصرخ، المستوطن الأشقر في بيت ايل… الذي اتى بالميركافا حتى مشارف دمشق، هو نفسه اليوم محشور في ملجأ تحت الأرض، ممنوع من الخروج.
هذا ليس مقالا عن الحرب… ولا عن إيران. ولا عن غزة. ولا حتى عن إسرائيل.
هذا مقال عن بيبي ملك إسرائيل… اسمعوها جيدا (أيها الغزاة)، من شخص لا يحبكم، ولا يتظاهر بذلك:
“أنتم عالقون في مشهد توراتي ممل، بلا نهاية وبلا مخرج. البحر الأحمر أغلق عليكم من الجهتين، لا خلاص من فرعون، ولا مخرج من التيه… الخطر الحقيقي عليكم اسمه بنيامين نتانياهو، يمشي بينكم، يصرخ، يبتسم لأنه يعرف… أنه يغرق.
ويعرف أيضا أن غرقه لا يكتمل إلا إذا أخذكم معه، واحدا واحدا، إلى القاع… لن يسقط وحده، يحتاج أن يسقط الجميع معه ليشعر بأنه ما زال ثقيلا…”.
نتنياهو هو علاقة سامة مع فكرة الخلود… رجل، مهووس بإيران، وعاشق للخراب. يحكم شعب خائف واعلام خائف أيضا. نتانياهو يزرع الحروب للهروب من محكمة العدل العليا، رجل لو لم يكن رئيس وزراء لكان اليوم موقوفا في سجن “نحشون” او معتقلا في سجن “معسياهو”.
مجرم حرب، مُلاحق من المحكمة الجنائية الدولية، يشن هجومه على دولة ذات سيادة، بثقة المنتصرين. والمهزلة أنه يفعل ذلك بمباركة قادة يكتبون خطاباتهم على مبادئ الديمقراطية وحقوق الإنسان.
إيمانويل ماكرون، مثلا، لم يتردّد في إعلان دعمه له بنبرة فرنسية راقية، النبرة ذاتها التي يواسي بها المجازر في غزة.
هذا النرجسي لا يؤمن بالدبلوماسية، لأنه لا يؤمن بوجود أحد غيره. يغازل الحرب كما يغازل امرأة يعلم أنه سيفشل معها… نتنياهو لا يفاوض هو يفرض ويأمر ويضع القواعد. رجل يسعى إلى حكم أبدي… يتلذذ بالدم كما يتلذذ النرجسي بدموع امرأة اعترف لها بحبه… نتانياهو اليوم، يجر كيانا بأكمله إلى الهاوية، فقط كي ُيثبت لنفسه أنه لا يزال الرجل الأقوى… حتى لو انهارت البلاد تحت قدميه… تماما كالنرجسي عندما يحاصر في الزاوية لا يعترف ولا يعتذر، لكن يتضاعف في عنفه وخداعه وتهربه…لا يتراجع ويحرق كل شيء…
إسرائيل، لا تجيد الحياة إلا في ظل صفارات الإنذار: كيان يعيش على الأدرينالين، ويعيد إنتاج ذاته بالحرب فقط.
دون القتل، ماذا تبقى من “دولة يهودية” محاطة بجدران من الكراهية؟
دون الخوف، كيف تُقنع أبناءها أنهم شعب مختار؟
خوارزمية إسرائيل تعمل هكذا، على الاستنزاف… تتبنى أيديولوجية منطق الحروب الطويلة، تلك الطقوس الدموية تُشعلها باسم الردع، تبكي لانها الضحية، وانها وعد الآخرة…
في اسرائيل، الشروخ الداخلية تتسع. الانقسام المجتمعي تجاوز خطوط الدين واللغة وبلغ قلب السردية الصهيونية نفسها. المواطن الغاضب لم يعد فقط يعاني من صواريخ غزة، وصواريخ ايران أيضا.. المواطن المتعب هناك يعاني من فواتير الكهرباء، ومن كوابيس ضريبة الدخل، ومن وهم الجيش الذي لا يُهزم حين يهرول مثله ويختبئ في الملاجئ.
الأسطورة انتهت… لكن اسرائيل ما زالت تتصرف كأنها على قيد الرواية: فقط، انظروا اليها تحترق…
صدقني، لقد بات عمر إسرائيل محدودا؟ وربما لم يكن طويلا منذ البداية.
كيان يجري ادارته بالجنون وحكمه بالهذيان، لا يستطيع الاستمرار… إسرائيل هي مستشفى مفتوح: أمراض نفسية جماعية، فصام قومي، وهستيريا أمنية يتم تقديمها في المناهج المدرسية.
الدول لا تموت دائما بصواريخ العدو او بضربة نووية، أحيانا تموت بصمت، بفصام تدريجي، عندما تتحول البارانويا إلى نظام حكم، والعدو إلى ضرورة وجودية… عندما يصبح الآخر مبرر لوجود الذات، تنتهي الذات بانتهاء مبررها.
في التوراة قيل إن بني إسرائيل تاهوا أربعين عاما في الصحراء، لأنهم تجرؤوا على الشك. فكم سنة ستتوه إسرائيل، وقد بَنَت كيانها على الشك، والرعب، وأسطورة لا تتحمل ضوء الشمس؟ ومارست القتل منذ سبعة وسبعون عاما باسم “الحق الإلهي”… نبوءات أخرى، في النصوص العبرية القديمة، تتحدث عن ممالك قامت على الدم، ثم سقطت في البحر…عن مدن محصنة بوصايا الرب، اجتاحها الغضب …
وإسرائيل تعرف أنها إلى زوال.
تعرف جيدا، كما يعرف كل من يبني على الأسطورة، أن نهايتها حتمية… وموعد مؤجل.
وهي ستُقاتل حتى اللحظة الأخيرة، لا لتنجو، انما لتُؤخر لحظة السقوط قليلا… فقط قليلا.
أستاذة جامعية، باحثة في العلاقات الدولية والقانون الدولي لحقوق الإنسان – باريس