غيدا أبو طير: غزة: الجزء الناقص في مسرح الشرق

غيدا أبو طير: غزة: الجزء الناقص في مسرح الشرق

غيدا ابو طير

في أواخر القرن العشرين، كتب ميشيل فوكو عن الثورة الإيرانية ما لم يجرؤ عليه غيره من فلاسفة أوروبا: أن ثورة خرجت من مساجد قُم، لا من بارات باريس، حملت ما لا يفهمه الغرب. لم يكن كلامه تمجيدًا، بل دهشة؛ دهشة مثقف رأى أن خرائط القوة في الشرق الأوسط لا تُقرأ من عناوين الصحف، بل من خبايا التاريخ وخطاباته.
واليوم، ونحن نراقب التصعيد الإيراني–الإسرائيلي، ندرك كم تغيّر كل شيء، وكم بقي كل شيء كما هو. شرقٌ يُعاد تشكيله لا بيد أبنائه، بل بعدسة الآخر الغربي الذي ما زال يكتب الرواية، ويمنح أدوار البطولة والخيانة كما يشاء.
حين تُروّج إسرائيل أنها “جزيرة العقلانية” وسط محيطٍ من الجنون، فإنها لا تخاطب شعوب المنطقة، بل مؤسسات الغرب: من واشنطن إلى برلين، من هارفارد إلى مجلس الأمن. هي لا تدافع عن نفسها، بل تؤدي دورًا. فإسرائيل لم تكن يومًا دولة، بل كيان وظيفي، يُجسّد سردية استعمارية مستمرة. أما إيران، فهي الأخرى أدّت ولا تزال، دور الخصم الضروري ضمن النص ذاته: شرٌّ محسوب، لا يُسمح له أن ينتصر، لكنه يُمنح ما يكفي ليبرر بقاء الرواية مشتعلة.
غزة: الغائب الحاضر في كل مشهد
لكن في الزاوية المعتمة من المسرح، تقف غزة. كجُرح يُستدعى حين يحتاج أحدهم إلى اختبار سلاح، أو تبرير دعم مالي جديد. وعلى الرغم من أن القطاع محاصر منذ أكثر من 18 عامًا، وأن الحرب أزهقت أرواح أكثر من 54,000 فلسطيني، فإن اسم “غزة” لم يظهر في أكثر نشرات الأخبار حين انطلقت صواريخ إيران باتجاه تل أبيب. وكأن غزة لا وجود لها إلا حين تكون متهمة.
صراع وظيفي لا وجودي
العداء بين إيران وإسرائيل، رغم قسوته الظاهرية، ليس وجوديًا، بل وظيفي. كل طرف بحاجة للآخر كي يبرر سرديته: إسرائيل تحتاج تهديدًا دائمًا يبرر عسكرة الدولة ويستدر الدعم الأميركي؛ وإيران بحاجة إلى “العدو الصهيوني” لتبرير خطاب المقاومة. كلا الطرفين يخاطب المتفرج نفسه: الرجل الأبيض في مركز الإمبراطورية. وفي كل هذا، لا تظهر غزة إلا ككومبارس في الخلفية. تُستدعى حين تُقصف، وتُنسى حين يُقصف غيرها.
النووي: لغة الغرب في فم الشرق
عندما تمتلك إسرائيل ما يزيد عن 200 رأس نووي دون أن يُفتح ملفها في الوكالة الدولية للطاقة الذرية، في حين تُعامل إيران كتهديد كوني دون دليل فعلي على امتلاكها للسلاح النووي، فإن القضية لا تتعلق بالأسلحة بل بمن يحملها. ليست القنبلة هي الخطر، بل اليد التي تمسك بها، إن كانت سمراء أو بيضاء، “عقلانية” أو “بدائية”.
وبينما يُفترض أن يمتلك الفلسطينيون حق السرد، يُجردون منه لصالح خطاب يستنسخ صورًا نمطية: “مقاومة حمساوية خارجة عن السيطرة”، “أجندات إيرانية في غزة”، “أطفال يستخدمون كدروع بشرية”. أما الحقيقة، فهي أن غزة ليست ملحقة بأي خطاب – لا غربي ولا إيراني – بل مكان نُفيت عنه اللغة.
من يملك حق الحكاية؟
حين تُقصف تل أبيب، تُقام الدنيا. حين تُمحى خانيونس، يُغلق الملف. وحين يتحدّث قادة العالم عن “ردع الخطر الإيراني”، لا يتساءل أحد عن الخطر القائم، الثابت، الواضح: حصار شعب كامل، تجويع نساء، دفن أطفال تحت الأنقاض.
الرد الإيراني – رغم كل ما قيل عنه – لم يغير معادلة واحدة في غزة. بل زادها عزلة. فبينما تسعى طهران لتثبيت مكانتها الإقليمية، وترد إسرائيل بضربات استعراضية، يُترك الغزيون دون ماء أو دواء أو كهرباء. كأن أحدًا يعاقبهم لأنهم ليسوا طرفًا كافيًا في النص.
في النهاية، كل هذا الصخب يخدم غاية واحدة: إبقاء المنطقة في حالة “اشتعال مضبوط”. لا سلام، ولا حرب شاملة، بل توتر يكفي لتسليح، يكفي لتصعيد إعلامي، لكنه لا يكفي لإنهاء المجازر الحقيقية.
وما لم نستعد نحن حقّ الحكاية، ونكسر النصّ المعدّ سلفًا، فسنظل نُدفن تحت سرديات غيرنا. فعدونا الأكبر ليس فقط في تل أبيب بل في كل قلم لا يرانا إلا حين نُقتل.
الاردن