رياض الشرايطي: الإبادة الجماعية بين الأمس واليوم

رياض الشرايطي: الإبادة الجماعية بين الأمس واليوم

 

رياض الشرايطي

ليست الإبادة الجماعية مجرّد جريمة حرب، ولا مجرد انحراف عن مسار التاريخ، بل هي النتيجة المنطقية لنظام عالمي قائم على العنف البنيوي والاستغلال . إنها الوجه العاري للرأسمالية الاستعمارية، حين تتخلى عن أقنعتها الحقوقية والإنسانية لتُظهر حقيقتها الدموية. إن تاريخ الإبادة الجماعية آلية لإنتاج الهيمنة وإعادة تشكيل الجغرافيا البشرية وفق منطق السوق والإخضاع الإمبريالي، و أن العنف لم يكن الاستثناء، بل القاعدة.
منذ فجر التاريخ، شكّلت الإبادة الجماعية لحظة فاصلة في علاقة الإنسان بالسلطة، بالقوة، وبالآخر المختلف. فهي لم تكن يومًا مجرد انفجار دموي عرضي، بل كانت دومًا ممارسة ممنهجة ومدروسة، تجسّد ذروة العنف المنظم حين يُسخّر لتصفية جماعة بشرية بسبب عرقها، أو دينها، أو ثقافتها، أو هويتها السياسية والاجتماعية أو ارضها. من مذابح الشعوب الأصلية في الأمريكيتين، إلى محارق القرن العشرين، وصولًا إلى المجازر الجارية في فلسطين واليمن وميانمار والسودان وغيرها، تتكرر الإبادة كما لو أن الإنسانية لم تتعلّم شيئًا، وكأن التاريخ يُعيد نفسه لا كمأساة فقط، بل كعار أخلاقي لا ينتهي.
في العصور القديمة، كانت الإبادة تُمارَس كجزء من الحروب والتوسّع الإمبراطوري: من إمبراطوريات آشور وبابل التي كانت تُحرق المدن وتُهجّر الشعوب، إلى حملات الرومان ضد الشعوب المتمردة. لكن مع ولادة الحداثة، تغيّرت أدوات الإبادة وأيديولوجياتها: الاستعمار الأوروبي في القرنين 18 و19 مارَس إبادة ممنهجة ضد الشعوب الأصلية في إفريقيا وآسيا والأمريكيتين، ليس فقط بالقوة المسلحة، بل أيضًا عبر الأوبئة المدروسة، التجويع، التهجير، والعمل القسري. كانت الإبادة آنذاك جزءًا من مشروع “تمديني” يدّعي تفوق الرجل الأبيض، ويبرّر كل جريمة تحت غطاء التنوير والرقي.
في القرن العشرين، بلغ العنف الإبادي ذروته مع الهولوكوست النازي ضد اليهود والغجر والمعارضين السياسيين، ومع مجازر الأرمن على يد الدولة العثمانية (1915-1917)، وإبادة التوتسي في رواندا عام 1994، ومذابح البوسنة في سربرنيتسا. وقد حاول العالم بعد هذه الفظاعات أن يضع تعريفًا قانونيًا للإبادة الجماعية، من خلال اتفاقية الأمم المتحدة سنة 1948، التي حدّدت الإبادة بأنها “أي فعل يُرتكب بنيّة التدمير الكلي أو الجزئي لجماعة قومية أو إثنية أو عرقية أو دينية”. لكن هل استطاعت هذه الاتفاقية أن تمنع تكرار الجريمة؟ الواقع يُجيب بالنفي، إذ واصلت الإبادة تكرار نفسها، وإن باتت تتخذ أشكالًا أكثر تعقيدًا وتخفيًا.
في عصرنا المعولم، لم تنته الإبادات، بل تغيّرت أدواتها ومسوّغاتها. لم تعد الجرائم دائمًا تُرتكب بالسلاح فقط، بل أيضًا بالحصار، بالتجويع، بالحرمان من الرعاية الصحية، بطمس الهوية، وبالتطهير الثقافي. الإبادة المعاصرة تمارس تحت لافتات “محاربة الإرهاب”، أو “الحفاظ على الأمن القومي”، أو “الحق في الدفاع عن النفس”. وهكذا، نرى الكيان الصهيوني يرتكب مجازر جماعية بحق الفلسطينيين تحت أنظار العالم، ونشهد في اليمن إبادة جماعية عبر التحالف العربي سابقا، مدعومة من القوى الغربية، حيث يموت آلاف الأطفال بسبب الحصار والجوع ، اليوم عبر آلة القتل الأمريكية و الصهيونية وفي ميانمار، يُباد المسلمون الروهينغا في صمت دولي تام، وفي السودان وإثيوبيا وسوريا وغيرها تتداخل العوامل العرقية والسياسية في جرائم إبادة تُبارَك أحيانًا بالصمت، أو بالتواطؤ الدولي.
اللافت أن المجتمع الدولي، رغم خطابه الحقوقي، غالبًا ما يتعامل مع الإبادة بازدواجية معيارية. فحين تمسّ الإبادة مصالح القوى العظمى، يتم تجاهلها، أو تبريرها، أو حتى دعمها ضمنيًا. بينما تُوظَّف أحيانًا قضايا الإبادة لتحقيق أجندات سياسية، كما حصل في تبرير التدخل في كوسوفو والعراق. هذه الازدواجية تكشف أن الإبادة الجماعية لم تكن فقط جريمة ضد الإنسانية، بل كانت – وما تزال – وسيلة في يد القوى الكبرى لإعادة رسم خرائط النفوذ والتحكم في مصير الشعوب.
في هذا السياق، يصبح من الضروري أن نتجاوز الرؤية الأخلاقية وحدها، لنفهم الإبادة كجزء من بنية النظام العالمي، حيث تتقاطع فيها المصالح السياسية، الاقتصادية، العرقية، والدينية. إن فهم الإبادة يتطلب تحليلًا جذريًا لبنية السلطة، ولعلاقات القوة في العالم، وللآليات التي تسمح بوقوع الإبادة، وتمنح الجلاد حصانة، وتُسكت الضحية، وتحرمها حتى من حق الحداد.
إن التاريخ الحديث لا يُقرأ فقط من خلال اتفاقيات السلام أو مؤتمرات الأمم المتحدة، بل أيضًا – وربما أساسًا – من خلال مجازر صامتة، وأصوات مذبوحة، وجماجم مهشمة لم تجد من يحصيها. لذا فإن إعادة كتابة هذا التاريخ من منظور الضحايا، وتحويل الذاكرة إلى مقاومة، والعدالة إلى مشروع تحرري شامل، ليس فقط ضرورة أخلاقية، بل شرط من شروط بناء عالم أكثر إنسانية.
 و لهذا وجب أن ننظر مباشرة في عيني المبيد و المباد و الابادة ككل ، لنستنهض بعض الإنسانية فينا بكشف وجهنا الآخر البشع.

01.إبادة السكان الأصليين في الأمريكيتين

الفترة: القرن 15 إلى القرن 19

-المُبيد: القوى الاستعمارية الأوروبية (إسبانيا، بريطانيا، فرنسا، البرتغال، لاحقًا الولايات المتحدة)
-المُباد: الشعوب الأصلية لأمريكا الشمالية والجنوبية
-عدد الضحايا: بين 50 و100 مليون
الابادة: وصف هاوارد زن “اكتشاف أمريكا” بأنه كذبة كولونيالية تخفي أبشع عمليات الإبادة في التاريخ. كان الإبادة البيولوجية عبر نشر الأوبئة متعمدًا، كما أظهرت وثائق عن توزيع بطانيات موبوءة بالجدري. تُظهر أعمال ديفيد ستانارد (David Stannard) في كتابه “American Holocaust” كيف أن محو سكان أمريكا الأصليين كان شرطًا ضروريًا لتراكم رأس المال الأوروبي. إنها إبادة تأسيسية، لا طارئة، دفعت ثمنها حضارات بكاملها.
مع وصول كريستوفر كولومبوس إلى جزر الباهاما في 12 أكتوبر 1492، انطلقت أعظم حملة استعمارية همجية في التاريخ الحديث. تلتها موجات غزو أوروبية بقيادة الإمبراطوريات الإسبانية، البريطانية، البرتغالية، الفرنسية، والهولندية، ثم الولايات المتحدة لاحقًا.
-الضحايا بالأرقام:
عدد السكان الأصليين قبل الغزو: بين 50 و100 مليون (بعض التقديرات تشير إلى 112 مليون).
عدد السكان في القرن 20: أقل من 5 ملايين.
نسب الإبادة تجاوزت في بعض المناطق 90% من السكان.
-أشكال الإبادة:

الأمراض: الجدري، الحصبة، التيفوئيد، الأنفلونزا. مات بسببها نحو 80 إلى 90% من السكان الأصليين خلال القرن السادس عشر وحده.

القتل الجماعي والمذابح: مثل مذبحة ووندد ني عام 1890 في داكوتا الجنوبية.

الاستعباد والتهجير القسري: عبر نظام “الإنكوميندا” الإسباني، ونظام “مسارات الدموع” في الولايات المتحدة (1830–1838).

القتل الثقافي: فرض المسيحية، تدمير اللغات، اغتصاب الهويات.

كانت هذه الإبادة وسيلة استراتيجية لتأمين الأراضي والأسواق والموارد، وفق منطق الرأسمالية الناشئة. وُظّفت الكنيسة الكاثوليكية كأداة أيديولوجية لتبرير الاستعباد تحت ذريعة “تنصير البرابرة”. هكذا بدأت تراكمات رأس المال الأوروبي على أشلاء الشعوب الأصلية.

02.إبادة السكان الأصليين في أستراليا (1788 – القرن 20) السياق التاريخي:

بدأت مع الاستعمار البريطاني لأستراليا عام 1788، الذي اعتبر الأرض “خالية” من البشر (doctrine of terra nullius).
تم تهجير السكان الأصليين (الأبورجينز) من أراضيهم ومياههم، وتدمير ثقافتهم.
-عدد الضحايا:
عدد السكان الأصليين عند بداية الاستعمار: من 750,000 إلى مليون نسمة.
بعد قرن من الاحتلال، لم يتبقَ سوى 60,000 إلى 90,000 فقط.
الانخفاض بنسبة تفوق 90%.
-أدوات الإبادة:
القتل الجماعي: مجازر موثقة (مثل مذبحة مايلا كريك 1838).
-نقل الأمراض كوسيلة متعمدة (مثل الجدري).
-سرقة الأطفال الأصليين فيما عرف بـ”الجيل المسروق” (1910–1970): أكثر من 100,000 طفل نُزعوا من أسرهم.
-منع اللغة والتقاليد، وتقييد التنقّل، والعمل القسري.

إبادة السكان الأصليين في أستراليا كانت إبادة ناعمة وبطيئة، لكن ممنهجة.
لم تعترف أستراليا بـ”إبادة” السكان الأصليين رسميًا حتى أواخر القرن العشرين.
ما تزال المجتمعات الأصلية تعاني من تمييز صارخ وفقر مدقع وانهيار صحي ونفسي.

03.إبادة الكونغو البلجيكية

الفترة: 1885 – 1908 (فترة ملكية ليوبولد الثاني)

-المُبيد: الملك ليوبولد الثاني.
-المُباد: سكان الكونغو
-عدد الضحايا: 10 إلى 15 مليون

كتب مارك توين كتيّبًا بعنوان “الملك ليوبولد وكفاحه من أجل المطاط”، يصور فيه وحشية نظام لم يكن استعماريًا فحسب بل شخصيًا، حيث كانت الكونغو ملكًا خاصًا للملك. المجازر كانت منظمة، تقطع فيها الأيادي كعقاب على عدم تلبية حصص الإنتاج. كان الاستغلال الاقتصادي متماهيًا تمامًا مع الإبادة الجسدية.
إبادة الكونغوليين تحت حكم ليوبولد الثاني.
 -(1885–1908) السياق التاريخي:
أعلن ملك بلجيكا “ليوبولد الثاني” ملكيّته الشخصية للكونغو في “مؤتمر برلين” سنة 1885 تحت اسم “دولة الكونغو الحرة”.
بحلول 1908، بعد فضائح دولية، انتقلت السيطرة على الكونغو إلى الحكومة البلجيكية رسميًا.
-الضحايا بالأرقام:
عدد السكان الأصليين قبل الاحتلال: بين 20 إلى 30 مليون.
-عدد الضحايا المباشرين: بين 10 إلى 15 مليون.
-تم قطع أيدي عشرات الآلاف من الأطفال والبالغين لإرهاب القرى وترويعها.
-أشكال الإبادة:

العمل القسري: أُجبر السكان على جمع المطاط مقابل “ضريبة” غير قابلة للتحقيق.

قطع الأيدي: كان الجنود مطالبين بإحضار يد يمنى عن كل طلقة أُطلقت حتى يثبتوا أنهم لم يضيّعوا الرصاص.

الحرق والقمع: آلاف القرى أُحرقت بالكامل، والنساء أُخذن رهائن.

نظام “ليوبولد” يمثّل أوضح صورة للإبادة الاقتصادية المُمنهجة في ظل الرأسمالية الاستعمارية، حيث لم يكن الغرض “التحضير للتنوير”، بل تحويل البشر إلى أدوات إنتاج لا قيمة لهم خارج المنفعة الاقتصادية. هذا ما أطلق عليه الروائي جوزيف كونراد “قلب الظلام”.

الهولوكوست النازي

الفترة: 1939–1945.

-المُبيد: النظام النازي

-المُباد: اليهود، الغجر، الشيوعيون، المثليون، المعاقون، السلاف
-عدد الضحايا: بين 6 و11 مليون

الهولوكوست لم يكن فقط جريمة كراهية، بل كان نتاج منطق صناعي بيروقراطي للإبادة. كما قال زيغمونت باومان، فإن الحداثة نفسها وفرت أدوات المحو المنظم للإنسان. هذه الإبادة جرى توظيفها لاحقًا سياسيًا لتبرير إقامة دولة إسرائيل، في تجاهل تام للضحايا الآخرين.

04.إبادة الأرمن على يد الدولة العثمانية (1915–1923) السياق التاريخي:

خلال الحرب العالمية الأولى، اتهمت السلطنة العثمانية الأرمن بالتواطؤ مع الروس. وفي 24 أبريل 1915، بدأت حملة اعتقالات وإعدامات جماعية للنخب الأرمنية في إسطنبول، تلاها ترحيل قسري لسكان أرمن الأناضول والكيليكيا باتجاه الصحراء السورية.
-عدد الضحايا:
التقديرات تتراوح بين 1.2 إلى 1.5 مليون أرمني من أصل نحو 2 مليون.
الآلاف من السريان والآشوريين والكلدان واليونانيين كانوا أيضًا ضحايا التطهير.
-وسائل الإبادة:

الترحيل القسري الجماعي سيرًا على الأقدام إلى الصحراء، حيث ماتوا جوعًا وعطشًا أو قتلوا.

مجازر منظمة بالسلاح الأبيض والنار في القرى والكنائس.

الاغتصاب، اختطاف الأطفال، تعميدهم قسرًا في أسر تركية وكردية.

نهب الممتلكات والأراضي وتحويلها إلى ممتلكات “دولة الخلافة”.

كانت المجازر أداة تطهير عرقي لبناء “أمة عثمانية موحدة” عبر محو المكونات غير المسلمة، في تناقض جذري مع ما يروّج له البعض من أن الخلافة كانت “واحة تعددية”. إنها إبادة تأسيسية للقومية الطورانية العنصرية، وواحدة من أوائل أشكال “الهولوكوستات” الحديثة.

إبادة الهيريرو والناما في ناميبيا (1904–1908) السياق التاريخي:

في مستعمرة جنوب غرب إفريقيا الألمانية (ناميبيا حاليًا)، ثار شعب الهيريرو في يناير 1904 ضد الاستعمار الألماني بسبب النهب والتمييز والاعتداءات الجنسية. فردّت الإمبراطورية الألمانية بمجزرة منظمة.

▪︎الهيريرو: أكثر من 65 ألف قتيل من أصل 80 ألفًا.
▪︎الناما: حوالي 10 آلاف قتيل.
-النسبة: إبادة بنسبة 80% من الهيريرو و50% من الناما.
-أشكال الإبادة:

الطرد إلى الصحراء ومنع الماء عنهم.

مخيمات الاعتقال التي كانت معسكرات موت في جزيرة “شارو”.

التجارب الطبية على الجثث والأسرى من قبل علماء عنصريين ألمان.

العمل القسري للناجين في ظروف فاشية.

هذه أول إبادة جماعية في القرن العشرين، وقد تبنّت خطاب “البقاء للأقوى”، وكانت تجسيدًا حرفيًا للداروينية الاجتماعية. وتم توظيف الطبّ والعلم العنصري كأداة “شرعية” للموت. وتُعدّ هذه الإبادة نموذجًا مبكرًا للمحرقة النازية.

الإبادة الاستعمارية في الجزائر (1830–1871) السياق التاريخي:

بعد الاحتلال الفرنسي سنة 1830، بدأت فرنسا حملة إبادة طويلة ضد الشعب الجزائري، خاصة في عهد الجنرال بيجو ووزير الحربية بيجو ثم نابليون الثالث. اعتبرت الجزائر “مقاطعة فرنسية”، وقُسمت أراضيها للمعمرين.
-عدد الضحايا:
تقديرات المؤرخين تشير إلى ما بين 500 ألف إلى مليون ونصف جزائري قتلوا خلال القرن 19.
في ثورة 1871 وحدها: أكثر من 100 ألف قتيل.
عدد السكان انخفض من 4 ملايين إلى 2.5 مليون فقط في نصف قرن.
-وسائل الإبادة:

حرق القرى بالكامل (سياسة الأرض المحروقة).

المغارات القاتلة: حرق السكان داخل الكهوف كما حدث في “مغارة الظهرة” سنة 1845.

تجويع السكان وقطع موارد الماء والزرع.

الإعدامات الجماعية، والتهجير القسري إلى تونس والمغرب.

القتل الثقافي: مصادرة الأوقاف، تدمير الزوايا، فرض التعليم الفرنسي.

جاءت الإبادة لخدمة مشروع استيطاني استعماري فرنسي شبيه بفلسطين لاحقًا، وكان لها طابع عنصري مسيحي-عسكري واضح. حتى الجمهوريين الفرنسيين تواطؤوا في هذه الإبادة. إنها حرب تطهير عرقي طويلة الأمد باسم “رسالة التمدين”، وشهادة على وحشية الاستعمار الذي حوّل الجزائر إلى “مختبر للموت”.

مجزرة نانكنغ – الصين (1937) السياق التاريخي:

خلال الحرب الصينية اليابانية الثانية، غزا الجيش الإمبراطوري الياباني مدينة نانكنغ في ديسمبر 1937، وارتكب واحدة من أبشع المجازر ضد المدنيين في التاريخ الحديث.
-عدد الضحايا:
بين 200 ألف إلى 300 ألف قتيل في غضون 6 أسابيع فقط.
عشرات آلاف حالات الاغتصاب.
-وسائل الإبادة:

الإعدامات الميدانية الجماعية بالرصاص أو السيف.

الاغتصاب المنهجي للنساء، من الطفلات حتى الجدّات.

حرق ونهب المدينة وتدمير بنيتها التحتية.

استعمال المدنيين كأهداف للتدريب العسكري.

المجزرة كانت استعراضًا للقوة الفاشية اليابانية، وقد مزجت بين الوحشية العسكرية والفلسفة القومية الإمبريالية التي اعتبرت الصينيين “أقل مرتبة”. هذه المجزرة تكشف مدى ارتباط الفاشية بالتوسع العسكري والإبادة المنظمة.

08.المجازر الصهيونية في فلسطين (1947–2025) السياق التاريخي:

بدأت الإبادة بحق الفلسطينيين منذ “خطة تقسيم فلسطين” سنة 1947، عبر سياسة الأرض المحروقة و”النكبة” التي مارستها العصابات الصهيونية المسلحة (الهاجاناه، الإتسل، الليحي)، واستمرت عبر العقود حتى المجازر الأخيرة في غزة.

-أبرز المجازر التاريخية:
أ. دير ياسين (9 أبريل 1948):
قتل حوالي 250 مدنيًا فلسطينيًا، معظمهم من النساء والأطفال، ذبحًا بالأسلحة البيضاء، وجرى تشويه الجثث.

ب. كفر قاسم (29 أكتوبر 1956):
أعدم الجيش الصهيوني 49 فلسطينيًا مدنيًا بينهم نساء وأطفال، رغم حظر التجوّل غير المُبلّغ به.

ج. صبرا وشاتيلا (16–18 سبتمبر 1982):
ذبحت ميليشيات الكتائب اللبنانية بدعم مباشر من الجيش الإسرائيلي حوالي 3500 لاجئ فلسطيني في بيروت.

ح. حروب غزة (2008، 2012، 2014، 2021، 2023–2025):
القصف العشوائي أدى إلى عشرات آلاف الشهداء المدنيين.
في الحرب الجارية منذ 7 أكتوبر 2023 حتى اليوم، تجاوز عدد الشهداء 50 ألفًا، نصفهم أطفال ونساء،
مع أكثر من 10 آلاف مفقود و أكثر من 100 الف جريح ، مع تدمير أكثر من 85% من البنية التحتية في غزة.
-وسائل الإبادة:

التجويع و التعطيش والقصف العشوائي والحصار كأدوات تطهير جماعي.

القتل الانتقامي واستهداف الأطفال والمستشفيات والمدارس.

التشريد القسري: منذ 1948 إلى الآن، أكثر من 8 ملايين لاجئ فلسطيني.

الكيان الصهيوني تجسيد للفاشية الحديثة المدعومة غربيًا. الإبادة لا تحدث فقط بالصواريخ، بل بالقانون، وبالمحرقة الاقتصادية والاجتماعية، وبالتحالفات الاستعمارية. النظام الدولي برمّته، من الأمم المتحدة إلى المحكمة العدل الدولية، يتحمل مسؤولية هذه الإبادة المتواصلة.

خطاب نازي استيطاني: وصف الفلسطينيين بـ”الحيوانات البشرية” من أعلى مسؤولين صهاينة.

09.الإبادة الجماعية في رواندا (1994) السياق التاريخي:

في 6 أبريل 1994، تم إسقاط طائرة الرئيس الرواندي “جوفينال هابياريمانا”، مما فجّر بركانًا عرقيًا خطيرًا بين الأغلبية “الهوتو” والأقلية “التوتسي”، مدعومًا بخطاب كراهية ممنهج من الإعلام والحكومة.
-عدد الضحايا:
خلال 100 يوم فقط: قتل ما يقارب 800,000 إلى 1,000,000 شخص، غالبيتهم من التوتسي، إضافة إلى هوتو معتدلين.
-أشكال الإبادة:

مجازر جماعية بالسواطير والمناجل، في الكنائس والمدارس والملاعب.

الاغتصاب كسلاح حرب: آلاف النساء تعرّضن للاغتصاب المنهجي.

المذابح داخل مؤسسات “الحماية” كالأمم المتحدة والكنائس.

الإعلام كأداة قتل: إذاعة “ميل كولين” وصحف “كانغورا” بثّت خطابات تحريضية مباشر.

-المتورطون:

نظام “الهوتو” الحاكم.

ميليشيات “إنتراهاموي”.

تواطؤ الأمم المتحدة: القوات الأممية كانت حاضرة لكنها مكبّلة.

تآمر فرنسي: دعم مباشر سابق للنظام، ورفض استخدام “إبادة جماعية” في مجلس الأمن.

رواندا تمثل مثالًا مرعبًا على الإبادة المتلفزة والمدروسة، حيث تم تدريب القتلة وتحضير الإعلام والبنية القانونية. إنها فشل للإنسانية ومؤسساتها “الحقوقية”، وتحميل مباشر للاستعمار الفرنسي الذي لعب دورًا في تكوين الخطاب العرقي منذ الحقبة الاستعمارية.

كمبوديا تحت الخمير الحمر .

باسم الطهارة الثورية، دخلت كمبوديا أحد أكثر فصول التاريخ دموية. بول بوت قاد مشروعًا لمسح كل أثر للمدنية: أُغلقت المدارس، هُدمت المدن، قُتل كل من يحمل نظارات أو يعرف القراءة.
العدو لم يكن خارجيًا، بل “الشعب الملوّث”، أي العقول. هذا الشكل من الإبادة ذاتي التدمير، يستهدف هوية الأمة نفسها.
الصمت الغربي كان مدفوعًا بحسابات الحرب الباردة: طالما أن النظام معادٍ لأمريكا، فليُترك لحاله.

11.مجازر بنغلاديش 1971

-المُبيد: الجيش الباكستاني.
-المُباد: الشعب البنغالي
-عدد الضحايا: بين 2 و3 ملايين

استخدم الجيش الباكستاني كل أدوات القمع الوحشي لإسكات مطالب الاستقلال، وسط تجاهل عالمي. الاغتصاب الجماعي استخدم كسلاح حربي، وتم قمع كل مظاهر الوعي السياسي. إنها إبادة سياسية وثقافية بامتياز.

12.إبادة مسلمي البوسنة
           : 1992–1995

-المُبيد: القوميون الصرب.
-المُباد: مسلمو البوسنة.
-عدد الضحايا: أكثر من 100,000.

كانت مذبحة سريبرينيتسا، حيث قُتل 8,000 رجل وطفل في أيام قليلة، لحظة تعرّي فيها ما يسمى النظام الدولي. الأمم المتحدة اكتفت بالمراقبة، وكأن الإبادة كانت مسموحًا بها سياسيًا لتغيير الواقع الديمغرافي.

13.اليمن:

الحرب التي نفذتها  السعودية والإمارات بقيادة التحالف الأمريكي-البريطاني ، و خلّفت أكثر من 400,000 قتيل، ومجاعة تهدد الملايين. هذا و المجزرة بالقصف المتواصل متواصلة الآن مباشرة من طرف أمريكا و الكيان الصهيوني ، عقابا لليمن على وقوفه مع المقاومة الفلسطينية بقصف قلب الكيان و منع أي مرور لسفن له أو لداعميه بالبحر الأحمر.

14.السودان:

الحرب بين الجيش والدعم السريع تتجاوز صراع السلطة إلى إبادة جهوية وعرقية، خصوصًا في دارفور. الفوضى المفتعلة تخدم مصالح شركات الذهب الأجنبية وتُعيد إنتاج النهب.

15.ميانمار:

الروهينغا ضحية تطهير ديني وعرقي، يتم باسم “الوحدة القومية”. الجيش استغل البوذية كغطاء أيديولوجي. الصمت الدولي يفضح عنصرية النظام العالمي ضد المسلمين.

من خلال الومضة التاريخية هذه لبعض الشّواهد ، نصل إلى أن الإبادة ليست فعلًا استثنائيًا، بل هي أداة استراتيجية للنظام الإمبريالي تُستخدم من أجل إلغاء الإنسان وفرض الهيمنة على الشعوب. الهدف الأساسي من هذه الإبادات هو تشكيل النظام العالمي الجديد بما يتلاءم مع مصالح القوى العظمى، في حين يتم تجاهل حقوق الإنسان أو حتى تكريس إبادة حقوق الشعوب.
إن نضال الشعوب ضد هذا النظام يتطلب تحليلاً نقديًا عميقًا لأسباب الإبادة وطريقة مواجهتها من خلال الذاكرة الثقافية، التضامن الأممي، مقاطعة الأنظمة الإمبريالية، وإعادة بناء الهويات الوطنية والاجتماعية.
إن النظام الرأسمالي العالمي، القائم على الاستغلال والعنصرية والهيمنة، هو المسؤول الأول عن هذه الإبادات. تتكرر الأنماط: عنف مُمأسس، خطاب تفوق، دعم دولي، وإنكار بعدي. جلادو التاريخ هم القوى الاستعمارية والأنظمة الفاشية، والضحايا دائمًا من الجنوب العالمي، من الشعوب السوداء، المهمشة، المقاومة.
و كما قال والتر بنيامين: “ليس هناك وثيقة حضارة إلا وهي وثيقة همجية أيضًا”. التاريخ ليس سردًا للإنجازات، بل سجلًا للجرائم التي بُني عليها النظام العالمي. الإبادة ليست ماضٍ، بل حاضرٌ مستمر. لن يتحقق العدل إلا عبر تفكيك النظام الذي ينتج الإبادة: نظام الدولة القومية القمعية، والسوق النيوليبرالي، والهيمنة الثقافية. وحده تحالف شعبي أممي يمكنه إيقاف دوامة الإبادة.
الإبادة ليست ذكرى بل واقع. وسؤالنا الآن: كيف نؤسس لذاكرة مضادة؟ كيف نربط النضال التحرري بوعي نقدي لما يُرتكب باسم الإنسانية والتقدم؟
في زمن تتواطأ فيه القوانين الدولية مع الأقوياء، وتُجَرَّم فيه الضحايا، يبقى التوثيق فعل مقاومة، ويبقى الوعي سلاحًا لا يُصادَر.
“لا ذاكرة بدون فعل، ولا عدالة بدون مقاومة”.
/ تونس