عزالدين مصطفى جلولي: مؤشرات على توجه القيادة السورية

عزالدين مصطفى جلولي
أين نحن؟
قدرة أية دولة على النهوض والريادة مرتبطة بعاملين: الأخذ بالأسباب العلمية لأنها السلم الطبيعي للارتقاء؛ والعدالة التي تتطلب عدم الاستغلال والغش. النموذج الهندي مرشح للصعود إذا توفر الشرطان وهما خلافه البوم، والنموذج الصيني يعاني من ضعف في العامل الثاني، والغربي مثله. ولو بدا لنا أن أحدا منهما يعمل بكفاءة فستظهر عليه معالم الضعف وقد ينهار فجأة، وما الصراع العالمي المحتدم اقتصاديا اليوم إلا مظهر جلي في ذلك.
ألفت النظر إلى البعد غير المقروء في الصراع الحالي، والذي يأخذ شكل صراع اقتصادي طبقي. ومفاده أن الدوافع العقدية حاضرة في تحرك الفاعلين، “ترامب” لا يزال يحمل عقيدة تنظر إلى فلسطين نظرة توراتية، و”ريفييراه” ظاهرها اقتصادي وباطنها ديني، ولعل وزير خارجيته “ماركو روبيو” كان أكثر فظاظة لما رسم الصليب على جبهته في تحد لكل شيء. في المعاملة الربوية للنظام الاقتصادي العالمي تسكن المردة من الشياطين، والحرب الإلهية عليها تأخذ في المنظور القرآني أسوأ السيناريوهات. “إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار”.
لقد تطور فن النجارة كثيرا فلم تعد العقد تعطل عمل المنشار. تصوير الواقع كما هو باد ليس هو عين الحقيقة. هنالك قناعات أخرى لدى اطراف الصراع تتحكم في الخيارات. النظام السوري الجديد غافل عن أن رأسه مطلوب بجد، وتركيا بتهددها المزاج الداخلي للناخب، الذي لا تعنيه الورقة السورية كثيرا. وإيران آت عليها الدور، ومخرجات الحرب في غزة لا تزال ولادة… أما وقد تشكلت الوزارات، فلنتريث لنرى الأعمال ثم نحكم عليها. أسامة بن زيد كان شابا يافعا لما قلده النبي وخليفته قيادة الجيش، وربما يكون إنجاز الرجال في ما هو آت، لا في ما مضى وفات.
المحيط السوري
خطوط التماس كانت ولا تزال وستظل موئلا للتجاذبات بين الحضارات المختلفة. أين نقف نحن كي نحدد إن كان ما تقوم به تركيا في مصلحتنا أم في مصلحة الروس، الذين عملوا بجد كغيرهم على إيجاد نفوذ لهم في العالم الشرقي والغربي إبان الحرب الباردة. يبقى المحتوى الذي تمارس به الدعاية لذا أو ذاك هي الفيصل في النجاح أو الفشل. وإن في تركيا لإرثا من الخير والصلاح تستطيع به أن تنقذ العالم بأسره.
تكتفي القيادة التركية بوصف واقع الحال، ولا تقدم إلا في المجال المسموح به، أما ما تحتاج إليه الأمة فليس من أولوياتها إذا كانت هنالك أثمان ستدفع. هذه البراغماتية لا تنفع أهلنا في سورية وفي غزة، ولا تليق بحكم يريد العودة إلى أصوله العثمانية.
هل من مهارات لاعب الشطرنج السياسي “بوتين” أن يتنازل عن سورية بسهولة ليتفرغ لتحرير أرضه واقتطاع المزيد من أراضي جيرانه؟ وهل كان موفقا في تحالفه مع نظام الأسد بدل الشعب الثائر عليه؟ وهل من الحنكة السياسية أن يدفع بفلندا والسويد إلى اللحاق بالناتو وجلا من المستقبل؟ وهل درس الرئيس الروسي بعمق جدوى الانتقال بالحرب إلى الصحراء الكبرى عبر الانقلابات والتحالفات مع المتمردين على حساب دول لها حضور تقليدي وازن كالجزائر وليبيا؟ وهل سيكون حقيقة ما سيجنيه الروس من “ترامب” من مكاسب مؤقتة، قد لا تستمر طويلا ما عاد الحكم في الولايات المتحدة إلى الديموقراطيين؟ وهل قبض الروس شيئا بعد والحرب لا تزال مستعرة؟ ولمصلحة من إضعاف الصين وأخذها باليمين على حين غرة؟ وغيرها من مقاربات تخلط أوراق من ينتصر للدب الروسي.
عادة ما يستثمر الغزاة الطامعون في جيوب متمردة فترة من الوقت ثم تتلاشى الحسابات، فتخسر البيادق أيما خسارة. وليت من نازع السلطة في دمشق قام بواجب “الضيافة” للغزاة الصهاينة وهم على مرمى حجر من ديارهم، على الأقل ليرى الناس الكرم العربي في حوران. أهلنا في درعا قدموا للثورة الكثير، ومن حقهم أن يهنؤوا بالعيش الكريم الآن. وليتذكر كل من يهمه الأمر مقولة ابن عباد الأندلسي: “لأن أرعى الإبل عند يوسف بن تاشفين، خير لي من أن أرعى الخنازير عند ملك قشتالة”. فدق الحديد وهو حام، ولا تترك العدو يلتقط أنفاسه. إنكم تدافعون عن شرف بلادكم فتقتلون وتقتلون، لكم الجنة ولعدوكم جهنم وبئس المصير.
أوراق مهمة
يتحسس الإنسان في زمن الجور مظالمه كافة، وتتلاشى في زمن العدل، على ألا تتحول المظلومية إلى مصاحف ترفع على أسنة الرماح، وإلا غدت حيلة لها مآرب أخرى. مظلومية الأمة واقعة ولا يرعيها بعض الناس نصيبا، بل إنهم لا يستدعون مفهوم الأمة وهم يعالجون بعطف مظالم فئات من المجتمع قد لا تكون مظالمها في ميزان المصلحة العامة ذات بال.
رأي هؤلاء المعارضين لتصريح هيئة الإفتاء بإشرافها على عمل الحكومة له مؤيدون، ورأيهم نابع من إيمانهم بالعلمانية، كما عرفوها في الثقافة الغربية. ولهذا التصريح المهم من عضو هيئة الإفتاء أنصاره وداعموه كذلك، لكن بحق الله ماذا قال الموافقون وبماذا صرحوا؟ وما موقف الشعب السوري لو سئل عن هذا التوجه الإسلامي للسلطة الجديدة؟
يوحي المعارضون للسلطة الجديدة في سورية إلى ازدواجية الخطاب عندها قبل التحرير وبعده، ولم يعطوا أمثلة على ذلك. أشير إلى أن التوليف بين الثقافة الإسلامية المعتدلة واستبعاد العلمنة المتوحشة لا “الأليفة” ليس مخرجا مثاليا للثورة السورية، التي يبدو أنها تتحرك بمقتضى مآلات الأمور من دون الدخول في مسرحية تؤدي إلى النتيجة الحتمية نفسها. فالتحكم في مفاصل الدولة شأن المنتصرين دوما، وتشوف الأغلبية السنية للدولة الإسلامية مسموع صداه بقوة. بقي على المكونات الصغيرة وأصحاب الأيديولوجيات التي تتناقض مع توجهات السلطة وغالبية المجتمع التكيف مع الواقع الجديد وتحصيل مساحة عادلة بقدرهم؛ هذا كي لا يغش الحاكم المسلم شعبه أو يجعل المكتسبات الاستراتيجية رهينة التجاذبات.
حق النقد محفوظ إلى أن تسفر الأيام عما ذهب إليه هؤلاء أو خلافه. إنه من السابق لأوانه الحديث عن ضعف السلطة أو أنها تغش شعبها أو أنها في نهاياتها، هذه أحلام، والتعويل على المجتمع الدولي ودفاتر شروطه وكأنه هو الذي بيده مقاليد الأمور وهم يضعف الرؤية. هل كانت أمريكا وحلفاؤها على دراية بمآل خططهم؟ إذن ما أقدموا على إسقاط النظام وحلفائه. ولا نغفل الفاعل الأعظم، وهو الله عز وجل.
“السكوت في معرض البيان بيان”، لأن إقحام تجارب دول فشل قادها الجهلة (عدا الأفغان) في نقلها إلى رحاب الإسلام يصب في مصلحة العلمانية. التي لا نجد لها في تراثنا السياسي ذكرا، كما لا نجد لمن ينافح عنها تفريقا بين الدين المسيحي الذي تمردت عن جلبابه وبين الإسلام الذي يملك رؤية شاملة لجوانب الحياة كافة، ولا يقبل من أتباعه الإيمان ببعضه والتنكب عن بعضه الآخر. لست أدري أين المشكلة لدى بعض الناس؟ أفي فهم الإسلام؟ أم في فهم العلمانية؟ أم في محاولة التوليف بينهما؟
مسار استجداء المساعدات الدولية ورفع العقوبات وتقديم قرابين البراءة أسوأ مسار تتخذه سلطة ربحت الحرب وبيدها إمكانيات الحد الأدنى. لتعلم سورية الجديدة أن العيش في دولة بدائية في هذه المرحلة خير لها من الالتحاق بعالم أخطبوطي لا يعرف الرحمة. ليست الرؤية المعاصرة للدولة بمجدية لشعب يؤوب إلى أصوله، الاكتفاء بالموجود وتوسيع نطاق المقايضة وتحقيق الحد الأدنى من الخدمات والضغط على الصهاينة بالمقاومة الشعبية… مكاسب يحسن بالسلطة الجديدة تفعليها والبناء عليها في الأمد المنظور، ولا تستعجلن التطبيع مع الدول المستكبرة، فليس في العالم محسنون.
(سوريا وتركيا وأذربيجان وكوسوفو) عمود فقري لمحور يتشكل قد يستقطب آخرين لهم التوجهات نفسها. ثم إن شدة الحذر من ذا وذاك والرعاية الأمريكية في ترتيب المنطقة والتحولات الداخلية في هذه الدول وعامل الزمن يجعل كل شيء مرجو على كثبان رملية متحولة. نسأل الله أن يلطف بعباده الصالحين!