حميد عقبي: تصوير الهامش وشعريّة الخطاب في السينما الإيرانية

حميد عقبي: تصوير الهامش وشعريّة الخطاب في السينما الإيرانية

 

 

حميد عقبي

عرفت السينما الإيرانية، منذ سبعينيات القرن الماضي، مسارًا متمايزًا عن السائد في العالم العربي والغرب على حدٍّ سواء، حيث تجسّدت فيها طاقة سردية وجمالية لا تسعى إلى الترفيه أو التوثيق السطحي للواقع، لكنها اتجهت إلى إنتاج معنى وجودي ومجازي ينبثق من الهامش، ويتغذّى من صمت المحذوف والمنسي، ويُروى عبر خطابٍ شعريٍّ يعاند القوالب التقليدية. في هذا المنحى، سنجد أن السينما الإيرانية تبحث عن الغامض والمُلتبس الذي يحمل في ثناياه نزيف الذات، واهتزاز المجتمع، وتوتّر العلاقة بين الفرد والمنظومة، بين الواقع والتأويل، وبين المقدّس والمعاش.
لقد استطاع مخرجون كبار، مثل عباس كيارستمي، محسن مخملباف، جعفر بناهي، سميرة مخملباف، أصغر فرهادي وآخرين، أن ينحتوا ملامح مدرسة فنية وإنسانية فريدة، تُوظِّف الحد الأدنى من الوسائط البصرية والتقنية، وتُراهن على اللغة الخافتة، والإيقاع البطيء، والفضاءات الريفية أو الشعبية، لتبني عالمًا سينمائيًّا يشبه قصيدة تتناسل من داخل صمتٍ مشروخ، حيث الكاميرا لا تُراقب بل تتأمل، والعدسة لا تفضح بل تُصغي.
الهامش في السينما الإيرانية يتعدّى المفهوم الجغرافي أو الطبقي، ليخلق أنطولوجيا ورمزية في آنٍ واحد. نرى الطفل، العجوز، المرأة، المجنون، الفقير، المعاق، المهمَّش ثقافيًّا أو دينيًّا، يتحوّل إلى مركز ثقل دلالي، وإلى مرآة للوجود الإنساني العاري. نلمس هذا جليًّا في أفلام مثل “أين منزل صديقي؟” لكيارستمي، حيث يتحوّل مسار طفل في قرية نائية إلى سؤال وجودي وشعري عن المسؤولية والتعاطف، أو في فيلم “الدائرة” لجعفر بناهي، الذي يكشف قسوة النظام الاجتماعي على النساء المهمَّشات، دون صراخ أو إدانة مباشرة، بل عبر بنية سردية حلزونية وشبه وثائقية تنقلنا من مصير امرأة إلى أخرى، كأننا نكتشف قسوة العالم من داخله لا من خارجه.
ما يُميّز الخطاب السينمائي الإيراني هو قدرته على تحويل اليومي والعابر إلى صورة مجازية ذات كثافة شعرية وروحية إنسانية. هذه الخطابات تتقاطع مع تقاليد شعرية صوفية عريقة في الثقافة الفارسية، مثل ميراث الرومي أو حافظ الشيرازي، ويُعاد إنتاجها بصريًّا لا لغويًّا، حيث تصبح المشاهد بمثابة أبيات مرئية، محمّلة بالدلالات، ومفتوحة على التأويل. لا غرابة إذن أن نشهد تماهيًا بين السرد السينمائي والمجاز الشعري، كأن كلّ فيلم هو طريقة غير مباشرة للبوح أو للنجاة من قمع الذاكرة والرقابة معًا.
الشاعرية هنا لم تكن ترفًا جماليًّا بل تكتيكًا سرديًّا وموقفًا فنيًّا وأخلاقيًّا. حين تُجبر الرقابة الرسمية المخرج على الالتفاف حول المحظور، يُصبح الشعر – لا بوصفه زخرفًا بل كحيلة – الوسيلة الأكثر فاعلية للتسلل إلى المسكوت عنه. من هنا، تحضر الحكايات الجزئية، اللقطات الطويلة، التفاصيل الصغيرة، الفراغات، الصمت، الرموز، وتَغيبُ الحبكات التقليدية الصارمة أو النهاية المغلقة والبطولات الفردية. فالعالم في السينما الإيرانية ليس حتمية بل احتمال، والمصير ليس حكاية تُروى بل تجربة تُعاش وتُتأمَّل.
ومن خلال هذا الأسلوب الشعري، يُعاد تأهيل الهوامش الصغيرة وتفكيك المركز. فبينما تُهمِّش الأنظمة السلطوية والسياسية والذكورية بعض الأجساد والطبقات، تُعيد السينما الإيرانية رسم خريطة الحضور الإنساني، مُفضّلة الشخصيات التي لا صوت لها، التي تقف على الحافة، تلك التي لا يُراهن عليها المجتمع لكنها تتحوّل إلى مرايا أخلاقية وفلسفية له. تُحيلنا هذه النظرة إلى مفهوم “العين الأخلاقية” في السينما، وهي العين التي لا تُصدر أحكامًا بل تستضيف الآخر، تُنصت إليه، وتنقله من التشييء إلى الوجود.
اللافت أيضًا أن شعريّة السينما الإيرانية لا تعني التهويم أو الانفصال عن الواقع وتفخيمه أو تقزيمه؛ إنها تنبع من صلب المعيش اليومي، لكنها تمنحه بعدًا ساحرًا تأويليًّا وجماليًّا، بحيث يُصبح القروي، أو المرأة المنفية، أو الطفل التائه، بمثابة نبي صغير يفتح أعيننا على هشاشة العالم وقبحه. وربما هذا ما يُفسِّر قدرة هذه السينما على التأثير العالمي دون أن تخون محليّتها، ودون أن تسقط في التبسيط أو الفلكلور.
تُقدِّم السينما الإيرانية، من خلال خطابها الشعري، نوعًا من المقاومة الرمزية، لا تتّخذ شكل الاحتجاج والصراخ المباشر؛ هي تُراهن على إزاحة المعنى، وإرباك المتلقي، وتفكيك السلطة داخل اللغة والصورة. إنها مقاومة تستدعي التفكير، وتُربِّي الذائقة، وتُعيد تشكيل وعينا الإنساني، مُستخدمة أدوات بسيطة وإمكانيات محدودة، لكنها تحمل رؤى كونية وحساسية إنسانية عالية.
في المحصلة، يمكننا القول إن تصوير الهامش وشعرنة الخطاب في السينما الإيرانية ليس فقط خيارًا جماليًّا، لكنه ضرورة فكرية وجودية، واستراتيجية فنية لمواجهة القهر بالصورة، والسجن بالرمز، والغياب بالتأويل. إنها سينما تُجيد الإصغاء للهمس الداخلي للعالم، وتَجعل من كل لحظة هامشية – لحظة مركزية لفهم الذات والآخر.
سنُحلِّق في هذا الكتاب مع عدد كبير من الأفلام الإيرانية، وحاولنا تقديم قراءة تأملية ومناقشة الكثير من القضايا. نشكر الأديب الشاعر صبري يوسف الذي قدَّم الدعم البديع ليرى هذا الكتاب النور ويكون بين أيديكم. نُرحب بملاحظاتكم ومناقشة أي فكرة أو نقطة.

——————
صدر عن دار صبري يوسف في ستوكهولم كتاب تصوير الهامش وشعريّة الخطاب في السِّينما الإيرانيّة
دراسات ومقالات / حميد عقبي
الطَّبعة الأولى: ابريل 2025
يحتوي الكتاب على 229 صفحةمن الحجم المتوسط
يزخر الكتاب ب25 مادة تناولت أفلاما إيرانية وناقشت قضايا فنية وفكرية وجمالية وفي مقدمة الكتاب وجه حميد عقبي كلمة شكر للأديب الشاعر صبري يوسف لدعمه الكبير من أجل أن يكون هذا الكتاب بيد القراء.
سيتوفر الكتاب قريبًا على عدة منصات لاقتناء الكتب.
ويمكنكم التواصل للحصول على نسخة
Hamid Oqabi (حميد عقبي)
أو الناشر الشاعر صبري يوسف
Sabri Yousef (محرر مجلة السلام الدوليّة )