يوسف عبد الله محمود: قراءة في كتاب “جحا العربي” للدكتور محمد رجب النجار

قراءة وتعليق: يوسف عبد الله محمود
أهدى المرحوم الدكتور محمد رجب النجار المكتبة العربية كتابًا فريدًا في نوعه اسماه “جحا العربي”. وقد صدر في الكويت. في مقدمته اثبت ان شخصية جحا العربي شخصية حقيقية، وليست شخصية خيالية. استعرض الدكتور النجار في دراسته القيمة هذا النوع من التراث الشعبي الذي ينقد البنية الاجتماعية لعصور عربية وإسلامية سادها الظلم والقهر، فتخلفت على نحو مُشين.
نوادر جحا العربي وإن اضحكتنا فإنها تسلط الضوء على الظروف الاجتماعية الشاذة التي تفضح واقع الأنظمة السياسية كما تشير الى مفارقات حياتية ما زلنا نعاني منها الى اليوم، مفارقات تأباها القيم الإنسانية.
يقول د. النجار في معرض تقييمه لنوادر جحا “اذا كانت النوادر الحجوية تدين القيم السلبية التي يتسم بها بعض الناس هي جزء من طبيعة المهزوم فإن ثمة نوادر أخرى تزخر بالقيم الإيجابي هي جزء من طبيعة المهزوم ايضاً، وردّ فعل مقاوم للهزيمة”. (المرجع السابق ص 120)
والمعنى ان هذه النوادر تحمل مغزىً يكشف مظالم اجتماعية. يتم ذلك من خلال السخرية التي تفضح واقع الأنظمة السياسية الظالمة.
سأتناول هنا نادرتين من نوادر جحا العربي الأولى “مسمار جحا” والتي استثمرها الكاتب المصري الراحل علي احمد باكثير في تأليف مسرحية هادفة اسماها “مسمار جحا” وهي بدراميتها تفضح وتعرّي الاعيب المستعمرين حين يحتلون اقطار المجتمعات النامية –والعربية منها-. وّلدى مطالبتهم بالرحيل عن هذه الأقطار يتذرعون بذرائع زائفة لا تصمد امام الواقع. في الماضي كانوا يخيفون نظم الحكم في هذه البلدان من الخطر الشيوعي. وحين انتهى هذا الخطر بانهيار الاتحاد السوفييتي، باتوا اليوم يخيفونها من “الإرهاب” وهم أنفسهم الذين خلقوا هذا “الارهاب”.
ومع الأسف فهم اعتبروا ان ثمة خطراً كالخطر الشيوعي السابق، وهو الخطر الإسلامي!
الكاتب باكثير ألف هذه المسرحية –وكما أشار د. النجار في كتابه- “استجابة لقوميته الذبيحة والى السخط الذي تمور به نفسه”. (المرجع السابق ص 304)
اما مخرج هذه المسرحية وهو الراحل زكي طليمات فقد جعل المسرحية تحمل عنوان “كُل منا جحا”. تم تمثيل هذه المسرحية عام 1951 في مصر.
نادرة أخرى سأشير اليها وهي تدل على مفارقات اجتماعية أرى انها ما زالت سائدة في مجتمعاتنا العربية بصورة او بأخرى.
دُعي جحا ذات مرة الى وليمة لدى احد الأثرياء. ولظروف عمله لبى الدعوة وهو يرتدي ملابس العمل، ولدى وصوله لم يجد الاستقبال اللائق به.
عندها فطن الى السبب، فغادر مسرعًا الى بيته، وخلع ملابس العمل وارتدى ملابس انيقة ثم عاد مُلبيًا دعوة صاحبه. وما ان شاهده الحضور وصاحب الدعوة حتى اسرع مُرحبًا به. وهنا وبسخرية ومرارة قاله له جحا: إنك يا صاحبي تُسلم على “كُمي” وليس على جحا! لولا “الكُمّ” لما استقبلتني على هذا النحو.
وهنا أتساءل: اليست مثل هذه المفارقات البغيضة ما زالت سائدة في مجتمعاتنا؟ اليس “الهندام” هو الذي يفرض حضوره، في حين لا نُعير اهتماماً لقيمة الشخص نفسه!
جحا لم يضحكنا فقط بل اشعرنا بضرورة التخلي عن بعض عاداتنا الذميمة، كما دعا الى ضرورة ترسيخ “الكرامة الإنسانية” على نحو ما تحدثت عنه مسرحية “مسمار جحا” لباكثير.
“الكرامة الإنسانية” تحفل بها الكثير من نوادر جحا.
جحا بنوادره كشف عن “القيم الإيجابية” التي ينبغي ان تسود تصرفاتنا كشعوب وافراد. انتصر للقيم الإنسانية.
كم من الدروس تُعلمنا “نوادر جحا” ليتنا نعتبر بها، فتنعكس قيمها الإيجابية على سلوكياتنا. ليتنا نحترم كرامتنا الإنسانية فلا نسمح لها ان تُستباح.
[email protected]