سعاد خليل: الشعر والتجديد

سعاد خليل: الشعر والتجديد

سعاد خليل
الشعر مثله مثل أي فن أكثر ميلا عند المبدعين فيه الي اختراق مجاهل التعبير، واكتشاف وسائل جديدة في الصورة والايقاع والرواية الفكرية الي مسائل الحياة والموت.
وميل الشاعر الي بكارة العبارة ميل ارثي فالشاعر الحق لاق لا يمكن ان يرضي دور المقلد والمردد في حين يطالبه الفن يرتاد ويكتشف، وهذا ما أشار اليه الجاحظ ودعا بالحرث لأنه أصعب من الحصد. وهذا أيضا ما جعل أبا تمام لا يمل من الحديث عن المعاني، الابكار، وعن اختراعها من قبل الشاعر .
بيان الصفدي وهو كاتب من سوريا في دراسة قصيرة كتب عن الشعر ومعركة التجديد.
حتي لا يذهب القول مذهبا بعيدا عن القصد اود التأكيد علي ان الجدة والحداثة في الشعر مسالة نسبية فتحيل مرة ثانية الي قول ابي الفضل الاندلسي.
دائما كان الشاعر الكبير يصطدم بجدار التقاليد الشعرية وهو يسعي الي اكتشاف صوته المتفرد وسط اسراب القصائد التي لا تفعل سوي تكرار ما قبلها.
وهل من السهولة ن يفتتح الشاعر شكلا او ايقاعا او تركيبيا جديدا؟ ابدا وعندها لابد ان يستعد لتلقي سهام النقاد او الناس او الزملاء أنفسهم.
وهكذا تأخر شعر كثير من دائرة الضوء الرسمية، بل اهملت نصوص كثيرة لأنها لم تنتظم ضمن التيار السائد، وما اكثر ما صادفني من اخبار ، و مقطوعات او قصائد مهملة لكنها الان شديدة    الدلالة .
حصل هذا في كتب الفروض الأساسية مثل القوافي للاخفش او الوافي في العروض والقوافي للتبريزي او العقد الفريد لابن عبد ربه ، واعلي الباب الخاص بالعروض في الجزء الخامس من مؤله .
إضافة الي كتب اللغة والادب مثل الأغاني و الكتاب وعجاز القران و سر الفصاحة وغيرها كثير .
 ان شاعرا عملاقا هو المتنبي ملا الدنيا وشغل الناس انما فعل ذلك بقصيدة تعيد الطراوة الي تقليد جامد، وتفتتح طريقتها الخاصة في البدء والنهاية وما بينهما. وتتجرأ ان تصنع خيالا فذا ولغة جيدة ورؤيا قلما قاربها شعراء غيره، لهذا ظلت قصيدته مثار الخلاف والنزاع والصراع، وان كانت قد فرضت نفسها منذ البداية لأنه امتلكت الخيوط السحرية للابدا .
ولو استشهدت بأمثلة قليلة جدا على طريقة تعمل المتنبي مع اللغة الشعرية لادرك القري ء بالملموس جانبا مما اعنيه ذ يقول المتنبي:
مضي بعد ما التف الرماحان ساعة، كما يتلقى الهدب في الرقدة الهدباء.
وما عدم اللاقوك باسا وشدة، ولكن من لاقوا اشد وأنجب

هدي برزت لنا فهجت رسيسا، ثم انتشيت وما شفيت نسيسا

وغيرها من الأمثلة كثيرة، تدلنا كيف كان المتنبي يثني لجمع ويدخل ال علي اسم الفاعل المضاف ، ويأتي بالفاعل الصريح وضميره معا ، ينادي اسم الإشارة بأداة محذوفة ، ويستخدم لغة مهورة من لفظة التراب .

ان نزعة التمرد عند المبدع لابد لها ان تنعكس علي طريقة استخدامه لأدواته اللغوية وموسيقاه.
لقد شهد تراثنا محاولات معدودة في موسيقا الشعر، تلخصها كلمة ابي المتاهية عندما اعترضوا على بعض ما كتب، انا اكبر من العروض.
وانتشار اشكال عشرية جديدة علي راسها الموضحات كانت إيذانا حقيقيا بتغير كبيري طال شكل القصيدة العربية وأجواءها.
وفي العصر الحديث شهد ادبنا العربي من بداية الانفتاح علي العصر، ومحاولة التجديد في التقاليد الشعرية الموروثة وهكذا طرح رزق لله حسون المتوفي عام 1880 قضية الشعر المرسل، واعقبه امين الريحاني وجبران والزهاوي وعبد لرحمن شكري وبو شادي وبأكثير وعلي الناصر .  حتي وصلنا الي تبلور الشعر الحديث عند السياب والملائكة والبياتي وادونيس وصلاح عبد الصبور وغيرهم.
لقد عمل البارودي ضمن عمل على ابداع وزن جديد مشتق من الاوزان العربية وكتب قصيدة لها قيمة خاصة في تجديد الموسيقا منها
املا القدح، واعص من نصح، فالفتي متي، ذأفها انشرح، واعجب هذا الوزن احمد شوقي فكتب
مال واحتجب، وادعي الغضب، ليت هاجري يطرح السبب .
وعلى عكس ما نتوقع من الشاعر الحقيقي سخر حافظ إبراهيم من التجربة وبدل ان يري يفيها إنجازا قال:
شال واتخبط، وادعي العبط، ليت صاحبي، يبلغ الزلط.
وصاح جبران صيحته الشهيرة، لكم لغتكم مولي لغتي. وقال عام 1911
الشعر عاطفة تتشوق الي القصي غير المعروف فتجعله قريبا معروفا، وفكرة تناجي الخفي غير المدرك فتحوله الي شيء ظاهر مفهوم.
اما الشاعر فهو مخلوق غريب ذو عين ثالثة معنوية تري في لطبيعة ما لا تراه العيون. واذا باطنية تسمع من همس الأيام والليالي مالا تعيه الاذان.
اما الزهاوي المأخوذ بدواوين الي حد قوله شعر:
 ولد القرد قبل مليون عام ، بشرا فارتقي  قليلا .
فقد عرف الشعر عام 1934
ولا اري للشعر قواعد بل هو فوق القواعد وهو اشبه بالأحياء في اتباعه النشوء والارتقاء.
وقال الياس أبو شبكة عام 1937
الشعر كائن حي تحتشد فيه الطبيعة والحياة فلا يقاس ولا يوزن .
وفي العام نفسه كتب سعيد عقل:
الشعر من لا وعي والنثر من وعي.
اننا نلمس في هذه الشذرات كيف بدا الانقلاب في النظر الي الشعر في موجهة النظرة لسائدة التي لا تري في الشعر الا محاكاة القصيدة العربية التقليدية.
وكان المد الرومنسي غير حاضن لنزعات لتجديد معبرا منها في الديوان 1921 و الغربال 1922 وفي شعر كثير ابرزه شعر مطران وشكري وناجي وعلي طه ومحمود حسن إسماعيل وشعراء الهجر ومدرسة ابولو فصرنا نسمع شعرا رهيفا مشحونا بالإحساس كقول إبراهيم ناجي:
كل شيء من سرور وحزن
والليالي من بهيج وشجي ،، وانا اسمع اقدام الزمن ، وخطي الوحدة فوق  الدرج.
وشهد التجديد معارك فيها الحقيقي والزائف من القضايا، بل فيها الأصيل والدخيل. وانقلب عدد المجددين علي التجديد اما فعل العقاد وزكي نجيب محمود يوقف بعضهم حائرا بين كحلة       حسين الا ان الشعر الحديث رسخ خطواته الاولي فيما عرف بشعر لتفعيلة وارتبد هذا التحول بمرحلة المد التحرري علي مستوي الوطن العربي كله، ذ لم تعد المسالة محصورة في شكل شعري بل افصحت عن افتراق بين تيارين رئيسين، حدهما مع لعصر وهمومه وتحدياته واخر مع لجمود والتراجع والتقليدية في كل شيء .
انطلقت التجربة لجديدة انطلاقتها الكبرى في الخمسينات والستينات وشهدت ولادة شعراء كبر ومهمين وبارزين وراحت الأسماء الشعرية لجديدة تكتسح الساحة الأدبية من السياب وعبد الصبور وصولا الي  علي الجندي ويوسف الصائغ  وبحسب الشيخ جعفر ومل دنقل ومحمود درويش وسميح القاسم .
ودارت معركة جديدة داخل حركة التجديد نفسها تمحورت حول مجلتي شعر وحوار ،  من جانب ومجلة الآداب من جنب اخر ، قفد خلت الجبهات أحيانا وأعادت ترتيب صفوفها واسمائها الا ن خلاصة الأمر او الشعر الحديث عاد وشهد تيارين اساسين احدهما معجون بالهم العام وبهاجس الوصول الي الناس وهو التيار الرئيس الممتد علي لساحة العربية كلها تقريبا وثانيهما تيار ميال الي شكلية وتغريب ودا مبالغ فيه للشعر  العربي وتقليده مع ميل الي التعبير عن ذات مغلقة وهز روحني ووجودي ولغة تقطع اكثر صلاتها في الايصال وتتعالي علي ما حولها ومن ابرز أسماء هذا التيار يوسف لخال وتوفيق صايغ وادونيس (في قسم من شعره ) وانس الحاج وفؤاد رفقة وشوقي بي  شقرا وسركون يولص ومؤيد الراوي وجان دمو جبران جبرا وغيرهم .
من الجدير بالذكر هنا ان التجديد تعرض لحالات من العرقلة المفتعلة فمع ايماننا ان الكتابة الحقيقة لا يمكن ان تكون مفصولة عن جذرها التراثي ولا ساحتها الشعبية الا ان هذا لا يعني بأية حال ممارسة الالغاء والمحاربة الفعلية لأي اتجاه او تيار شعري.
ومن حق اية محولة ان تطرح نفسها كما من حق ي راي ان يقول ما يشاء دون ان تتحول هذه المحاولة الي سياسية ثقافية تفرضها دولة من الدول كما حصل ويحصل الي الان من محاولات بائسة للاستقواء بالجولة في فرض او ابعاد شكل من اشكال التعبير الشعرية.
فقد حصل او يحصل الي الان، استبعاد قصيدة النثر من حقها في النشر وكذلك الشعر العامي، وتجري اشكال من الردة الشخصية في جو رسمي عام نحو الأشكال التقليدية.
ورغم من كل هذا فحركة التجديد انتزعت مشروعيتها الشعبية والرسمية، وباتت لان تيارا طاغيا لدي الحركة الشعرية العربية، وليها ن تعمق بداعها وتغربل تجربتها، لتظل امينة لرسالة الشعر في كل زمان ومكان.