د. هيثم علي الصديان: سوريا والسردية الأمريكية

 

د. هيثم علي الصديان

الرؤية الأمريكية:

ما حصل في سوريا خلال السنوات الماضية، من ثورة سلميّة دامت سنة كاملة تقريباً،  ثم تحوّلت إلى معارضة مسلّحة دامت أربع عشرة سنة، في وجه نظام استبداديّ شموليّ،  كلّ ذلك جرى توصيفه وفق الرّؤية الأمريكيّة على أنه حرب أهلية(civil war)، وقد تبنّت الأمم المتحدة/ united nations هذا التوصيف، وانساق العالم أغلبه وراء تلك الرؤية. أي إنّ هناك في سوريا صراعاً مسلّحاً وحرباً ضروساً مستعرة، ليس بين المعارضة بفصائلها المتنوعة والسلطة ونظامها القائم وجيشها العسكريّ، وإنما بين المعارضة السنية والنظام العلوي، ومن ثَمّ بين مكوّنين من مكونات المجتمع السوري: هما السنة ذات الأغلبية السكانية، مدعومة من بعض دول الإقليم هذه من جهة، وبين العلويين المساندين للنظام القائم، مدعومين كذلك من بعض الدول الإقليمية والدولية الفاعلة في المنطقة والعالم.
هذه هي الرؤية التي شيدتها الولايات المتحدة الأمريكية، والتي تبناها العالم. فلم تعد القضية بين نظام مستبدّ وشعب يتطلّع إلى الحرية والحياة الديموقراطية الكريمة.

الكيد الأمريكي:

لقد ترتّب على هذه الرؤية جريرةٌ أخلاقية وجريمة إنسانية مقصودتان، اقترفتهما الولايات المتحدة بوصفها المتحكمة بمعظم أحداث هذا العالم، والناظم لأكثر سردياته، وخاصة ما يجري في سوريا؛ إذ كيف يُقبل من تلك الإمبراطورية العظمى، التي تدّعي أنها تقود تاريخ العالم نحو أفق حضاري جديد، نحو قيم السلام والرقي والجمال الكوني البشري المنتظر، كيف يُقبل منها، بناءً على رؤيتها التي صاغتها للمشهد السوري، أن تَقبلَ بانتصار طرف على آخر، بل وتَترك أكثر فصيل تشدّداً وتطرفاً بحسب تصنيفاتها، أن يصل إلى سدّة السلطة في سوريا ويحكم باقي المكونات، وتسمح له أن يدخل مناطق الطرف المنهزم، وتطلق يده في تلك المناطق، وتبارك سلطته، وتسعى إلى تسويغه أمام العالم…؟ هذا لا ينسجم أخلاقياً ولا قانونياً، ولا حضارياً، لا ينسجم البتّة مع الرؤية نفسها التي أشاعتها وروّجتها أمريكا طيلة سنوات الصراع ، بل وبعد سقوط النظام، رؤية أنها حرب أهلية…! فكأنها قيّدت القاتل وحبسته في غرفة، ثمّ اختارت أشد أولياء الدم تطرفاً وتعصباً وحقداً من وجهة نظرها، وأدخلته على الجاني القاتل، وقالت له: (هذا قاتل أبيك ولكن إيّاك إيّاك أن تأخذ بثأرك منه). وأقفلت عليهما الباب وتركتهما. فأمريكا هي من وصفت ما جرى في سوريا على أنّه حرب أهلية، وهي من باركت وصول هيئة تحرير الشام إلى سدة الحكم، على الرغم من مظاهر التمنّع والتمحّلات الإنشائية المُعلَنة، وقد حصل ما حصل، من دخول الهيئة المصنفة على قائمة الإرهاب عندها، إلى مناطق الساحل السوري، كلّ ذلك أمام عينيها وعلى سكوت منها…؟!
أي ثمة  متناقضات ثقافية وسياسية حاكتها السردية الأمريكية ونظمتها بلاغياً في خطاب واحد أو سردية جامعة، وهي متناقضات محال جمعها، تتمثّل في سرديّة الحرب الأهلية، وأنها ليست ثورة شعب ضد نظام مستبد، ثم سردية الإرهاب توصيفاً لفصائل هيئة تحرير الشام، ثم ختمتها بسردية القبول والرضى الضمني بتسلُّم تلك الهيئة مقاليدَ حكم سوريا، تحت مجازٍ افتراضي يتمثّل بتحوّل الحرب الأهلية  بين ليلة سقوط النظام وضحاها إلى دولة على طريق الاستقرار.
هذه هي مكوّنات الخطاب الأمريكي للسرديّة السوريّة، رؤيةً وعقدةً ومكيدةً وخيوطَ صراع، أرادت أن تُخرج منها نهاية كارثيّة لتلك السرديّة. إن تفكيك هذا الخطاب وما ينطوي عليه من سرديات مستندة إلى عناصر ثقافية وشخوص تمثيليّة ورؤية اجتماعية ومكيدة سياسية مدمرة، يكشف هذا التفكيك أن أمريكا ما كانت لتريد الخير والاستقرار لهذا البلد في ظلّ تلك السردية الجامعة ورؤيتها القائمة عليها. أنها تريد حرباً أهليّة حقيقيّة، وصراعات، وانقسامات،  كل ذلك في خطاب جميل يضمر داخله الخراب ثقافيّاً واجتماعيّاً وسياسيّا، ودينياً، واقتصادياً… بل كل ما يمكن لتلك السردية الجامعة من تخريبه في بنية الوجود السوري.
كاتب سوري