ابراهيم أقنسوس: الهابلية الثانية في الحرم الجامعي.. قراءة في رواية (صويحبات الجامعة)

ابراهيم أقنسوس
أزعم أنني يمكن أن أجازف قليلا ، فأسمي قراءتي لهذا النص الروائي(1) ، بالهابلية الثانية ، استئنافا للهابلية الأولى ، المثبتة في النص الديني (2) ، وتنويعا عليها ؛ يبدو الراوي ، في شخص هابيل تارة ، وفي شخص سارد ما ، تارة أخرى ، منشغلا بترسيم عناصر هذه الهابلية ، والتنبيه إلى قيمتها وضرورتها وراهنيتها ، روائيا على الأقل ، عبر اختيارات ثقافية وأسلوبية ، يتم بثها في ثنايا هذا النص ، وتتولى شخوص معينة ، التعبير عنها ، والمساهمة في كتابتها . يخبرنا الراوي ، أنه يهدي روايته هذه لرفيق دراسته (هابيل) (ص5) ، كما يخبرنا سارد ما ، أن ما يهمه ابتداء هو ، هو تحرير متن هذا النص ، أو تحقيق مخطوطه الأول ، إذا صحت العبارة ، وأن (سنبلة) ستنتظر (عدنان) ، ابن (هابيل) لتسلمه أوراق (صويحبات الجامعة) ، مضافا إليها مقاطع بخط يده ، للإحتفاظ بها ، إلى حين الإتفاق مع الناشر، وإلى حين التوصل برسالة (شروق) (ص9) ، التي سيلحقها بالنص ، بعد استوائه ، لتكون خاتمته (ص324_325) .
بعد هذا الملمح التوثيقي ، الذي بدا دالا للنص ، ينتقل الراوي رفقة سارديه ، إلى مباشرة عملية الحكي ، برصد حركة هذا (الهابيل) ، ابن (باعلي) (ص22) ، وهو يلج مدرجات الجامعة ، لأول مرة ، بعد انقطاع ، لدراسة الأدب الإنجليزي ، ومخالطة الطلبة ، وهو ابن الكاهل ( الذي يحمل على ظهره عالما خمسيني البصمات ، يترجل متعثرا في مدارج فصول التحصيل بين صبية … ) (ص15) ، كما عبر وهو يخاطب نفسه ، وكأنه يداري دهشة البداية وسط الصويحبات ، ويحدث (سنبلة) ، صورته الأخرى ، التي بدا أنها كانت تدرك إلى حد ما ، معنى تواجد أستاذ يحمل شواهد عليا ، ضمن جماعة من الطلبة ، يتلمسون خطواتهم الأولى في مدارج المعرفة والبحث ، ولذلك لم تتأخر (سنبلة) كثيرا كي تطلب منه أن يسرع في اقتراح موضوع يشتغل عليه فريقهم (ص17) ، الشيء الذي لا يتردد (هابيل) في الإستجابة له ؛ فهو لا يكاد يصدق تواجده هنا ، مرة أخرى ، ويكفيه في باب المعرفة هذا ، أن يكون مريدا ، وأن تكون (شيخه) هي هذه الطالبة (سنبلة) ، والتي بدت متحفزة للإستزادة من المعرفة (ص29) ؛ وبقدر سعادة هذا (الهابيل) بتواجده صحبة الطلبة ، بقدر تأثره لما آل إليه أمر الجامعة ، سواء من حيث وضع الطلبة وصورتهم داخل الأقسام (ص67_68) ، أو من حيث مستوى النقاشات التي كانت تجمع بعضهم ، والتي لم تكن تخلو من صراعات ، بدت بلا معنى (من ص30 إلى ص34) ؛ وربما كانت هذه العناصر كافية ، لانخراط (هابيل) في مهمته التي انتدب لها نفسه ، حيث يخبرنا الراوي أن : ( الدعم النفسي هو زاد هابيل يروي به أعضاء الفريق واحدا واحدا ، خطوة خطوة ..)(ص35) ، ما يعني أن (هابيل) هو من سيتحمل روائيا ، مهمتين اثنتين ؛ مهمة توجيه الحكي (التخييل) ، ومهمة توجيه الفريق (الصويحبات وعمر) ، (ص41) ، معرفيا وتربويا ؛ معرفيا حين يتولى دور تصحيح الأفهام التي تبدو مغلوطة ، كمسألة عدم مراعاة اختلاف السياق ، بالنسبة ل(عمر) ، أو ما أسماه قتل السياق ، حين يقول : ( أعترض عليك لأنك تقتل سياقك لصالح سياق آخر..
وابن تيمية لن يقبل منك أن تقتل سياقك .. ، سيطالبك بأن تصغي إلى نبض واقعك.. )(ص283) ، فما يهم هابيل من شأن الصويحبات ، في مجال الفكر والنظر ، يقول الراوي ، هو أن 🙁 يكتب بمداد التأمل على صفحات عقولهم البيضاء قواعد ذهبية في نبذ الأفهام السطحية ..) (ص255) ، أما تربويا ، فيبدو ذلك مثلا ، حين يتدخل في اللحظة المناسبة ، لاقتراح توجيه نظري معين ، أولفض خصومة طارئة ، ورد الأمور إلى نصابها ، بين الصويحبات ، (حالة مريم والخنساء مثلا )(ص63) ؛ هما مهمتان اثنتان ، الأولى إبداعية ، والثانية واقعية ، داخل النص نفسه ، وهو مركب ثقافي ليس باليسير؛ وقد يتدخل (هابيل) أحيانا ، ليكشف عن حدود مهمته التي اختارها لنفسه بنفسه ؛ فحين ألحت عليه (سنبلة) ، كي يقل (لمياء ) معهم إلى بيتها ، أجابها أن مهمته أن ينير لهم الطريق .. وبعدها لكل واحدة اختيارها ، فقال : ( لن ألزم أحدا بأن يكحل عينيه بنور يراه ظلاما ..) (ص264) ؛ وفي الشأن الجامعي ، إذا صحت العبارة ، بدا (هابيل) شديد التأسف لما آل إليه أمر الجامعة ، في شقها الثقافي ، وعبرفي النهاية ، عن خيبة أمله بعد كل مابذله ، يقول الراوي : ( دلف هابيل إلى عالمهم بقربان الحوار والتعايش والتقبل ، وشرعن لأحقية الإختلاف البناء … وأقبل على كل الإتجاهات والمشارب بحثا عن نقطة التقاء تشاد عليها قاعدة من العمل الثقافي الجامع ، لكن وهمه لم يسعفه في أن يدرك بأن قاعدته المنشودة هشة مثل عهن منفوش ..) (ص315) ؛ وبالنسبة إليه ، لا يمكن التحقق بنضج فكري دون حرية كاملة (حالة لمياء) (ص253) ، ودون نبذ كل المضايق والإصطفافات ، نظريا وواقعيا ، وقد بدا واضحا مدى رفضه لمصطلح ما يسمى (إسلامي) حيث اعتبره : ( أكبر مصيدة وقع فيها الخطاب الإسلامي.. ) ، أو ما سمي كذلك (ص221) ؛ وبالجملة ف(هابيل) كان يعرف غايته ، كما يمكن أن نقرأ ، ويتجه إليها رأسا ، ولا شأن له بأي أمر آخر ، حتى ولو تعلق بنية إلحاق الأذى بشخصه ؛ فحين حذرته (سنبلة) من كيد أحد الفصائل الطلابية ، المناوئة لاختياراته الفكرية ، كان جوابه وبلا تردد : ( اسمعي مني الخبر اليقين ، أنا لست مستعدا كي ألعب دور بطل مغوار، أو أتطلع إلى فداء مقدس .. فنحن لنا اكتفاء ذاتي من الشهداء .. ) (ص305) ، وأعرب بكلمات لا تخلو من قوة ، أنه ، لن يقبل أن يكون بطلا تصنعه افتراءات أي فصيل ، ( لن أكون بطلا تصنعني افتراءات أي فصيل .. ولن أستجيب لاستفزازات القوم ..) (ص305) ، و في حالة العجز، فهو يفضل أن يحمل أغراضه ويرحل ، كما يقول . يمكن اعتبار ما تقدم ، صورة مركزة ، لبعض ملامح (الهابيلة) في هذا النص ، بما هي رؤية للذات وللآخر ، كما يمكن أن نقرأ ، ونأتي الآن إلى بعض التفاصيل .
_الراوي يبث رؤيته عبر شخوصه : يمكن أن نلاحظ ، عبر تتبع مسارات الحكي ، في هذا النص ، أن الراوي يقوم بتدبير عناصر رؤيته وكتابتها عبر مجموعة من الشخصيات ، التي اختارها اختيارا ، أو التي فرضها مسار السرد وتنويعاته ، والتي يمكن رصدها كما يلي :
_ (سنبلة) : الشخصية الأبرز ، كما بدت ، بعد هابيل ، أو الهابلية في صورتها الأخرى ، الطالبة التي اقترحت عليه المساعدة ، وخاطبته بالأستاذ ، في إشارة إلى استطلاعها لصورته ، التي بدا عليها ، وهو يلج مدرجات الجامعة (ص14) ، بل وهي من طالبته باقتراح موضوع البحث الذي يخص فريقهم (ص17) ؛ ويعرض الراوي ملخصا مركزا لهذا البحث ، على لسان سنبلة : ( إن كتاب (الحياة هي ما نصنع) توكيد مختصر على أن الإنسان قادر على أن يتجاوز مختلف الإكراهات والتحديات ، وأن يتعامل مع الحياة ، بأزماتها المالية والإجتماعية ، على أنها فرصة وحيدة وجادة ومقدسة ، أتيحت للإنسان أن يحياها هو… ) (ص38) ، وأن (الإلتزام يحرك العالم ..، إنه يمدنا بالقوة ويشفينا في الوقت ذاته ) ، استنادا إلى ما ذهب إليه (بيتر بافيت) (ص39) ؛ وبدا أن (سنبلة) كانت موفقة في عرضها لعناصر الموضوع ، كما بدا أن (هابيل) كان يقوم بدور التوجيه وتنظيم الإيقاع (ص41) ، وتأكد مع التقدم في الحكي ، أن علاقة علمية تنتسج بين (هابيل) الطالب الكهل ، وشيخه (سنبلة) ، كما يحب أن يصفها في أكثر من مناسبة (ص29…) ، ويختار الراوي قاموسا عرفانيا ، للتعبير عن مستوى عمق هذه العلاقة ، بين طالبين تفرقهما السنون ، وتجمعهما المعرفة ، في صورتها العاشقة (ص163) ، وبدا أن حاجاتهما المعرفية لبعضهما ، لا تزيدها الأيام إلا توهجا ، فهابيل يقدم نفسه أنه يحتاج إلى نبراس سنبلة (ص166) ، ولا يتردد في ذكر فضلها عليه باستمرار (ص305) ، ونفس الأمر بالنسبة إليها ، كما يحكي الراوي (ص263) ، وقد تتطور العلاقة بينهما ، فتفضي إلى مطارحة مواضيع من حجم العلاقات الزوجية ، في صفوف الطلبة وتداعياتها السلبية ، في غياب النضج الكافي كما عبر (هابيل) في تفاعل مع (سنبلة)(ص246_247) . وإذا كانت شخصية (سنبلة) ، قد مثلت روائيا ، الوجه الآخر ل(هابيل) ، فكانت مريده وشيخه ، في نفس الآن ، تماما ، كما هو الأمر بالنسبة ل(هابيل) ، مع اختلاف في الدرجة ، لا في النوع ، فإن الشخصيات الأخرى ، (الصويحبات وعمر) ، لعبت دور التبئير الذي ساهم في تخصيب الرؤية ، التي بدا أن هذا النص ، كان يروم كتابها ، كما يمكن أن نقرأ ، ويمكن أن نشير في هذا الصدد إلى الشخصيات التالية :
1_ شخصية (مريم) : أوحكاية فتاة مع أمل مخادع ، كما عبر الراوي (ص106) ؛ صورة للفتاة في معاناتها مع زوجة الأب ، واضطرارها لمغادرة البيت (ص109) ، وارتباطها بشاب سيتبرأ من حملها سريعا ، ويتركها وحيدة تجتر أوجاع الوحم (ص295_296) ، ومعه خيبة حرية ، بدا أنها لم تكن مجدية ، ونتيجتها لم تكن أكثر من حمل يعقبه إجهاض ، نجت منه (مريم) بأعجوبة ، تقول الرواية (ص302) .
2_ شخصية (لمياء) : أو (لمياء عدنان وجبل السذاجة المنهار) كما اختار الراوي ، (ص115) ، الشخصية التي أحب الراوي سذاجتها ، كما أحب كنيتها التي تذكره بابنه (عدنان) الذي غادر، لأنه رفض منطق الوالد (ص116) ، قبل أن يكتب إليه يطلب اعتذاره ، ورغبته في العودة (ص118) ؛ (لمياء عدنان ) هكذا كان يناديها (هابيل) ، وبدا أنه كان يجد صعوبة في فهم شخصيتها ، كما يحكي عنه سارد ما : (لكن لم يكن يدري بأن صورة لمياء ستتبخر ألوانها كمحلول كيميائي لا يلبث أن يتلاشى ، فكان منها كقابض كفيه على الماء .. ) (ص123) ، ربما يعود الأمر في ذلك ، لصدمة افتراق والديها (ص124) ، ثم لوفاة أخيها حسام ، في ظروف بدت مأساوية ، حين لم تجد لمياء من يتدخل لإنقاذه ، بحجة وباء كورونا ، (ص127) ، ما أدى إلى إصابتها برعاب ، كانت تحتمي منه بكتاب (حصن المسلم) كما يحكي الراوي (ص157) ، وبدا أن (هابيل ) كانت له قراءته الخاصة لما يصدر عن لمياء ، من أسئلة وترددات (ص224_225) ، كما بدا مهتما لانتقادها لما ذهب إليه المحاضر، في شأن اطمئنان الناس في كورونا ، حين أكدت العكس ، مشيرة إلى حادث موت أخيها (حسام) (ص230) ؛ وفي شأن اختيارها الفكري ، للعمل ضمن فصيل معين ، كان (هابيل) ، ردا على سنبلة ، يرى أنها : (…شابة راشدة …تتحمل مسؤوليتها…) (ص263) ، بل وبدا (هابيل) متفهما لاختيار لمياء ، في شأن عدم ارتداء الشال (ص277) ، إذا كان الأمر مجرد استجابة لتقاليد أسرية ، لا تفعل غير صناعة التناقض ، وترسيم ازدواج الشخصية (ص278) ، وآخذ (عمر) حين اعتبر لباس الشال عنوان تدين (لمياء) (ص269) ، وقد بدا الراوي منشغلا بعلاقة التدين بالحرية الشخصية للفرد ، وما الذي يعنيه ذلك ، بالنسبة إلى الأبناء في علاقتهم بالآباء (ص277) ، ولوحظ استناده إلى بعض أدبيات ومفاهيم التحليل النفسي ، في قراءة سلوك شخصية (لمياء) (ص278).
3_ شخصية الخنساء : أو (شواظ من لعنات) ، كما اختار الراوي (ص132) ، شخصية أسند إليها ، روائيا ، مهمة انتقاد جيل (هابيل) وما ارتبط به من فكر (ص137) ، وكعادته وسيرا على منطقه الهابلي ، الذي لا يتفق أحيانا ومنطق الصويحبات ، تلقى (هابيل) كلام (الخنساء) ، على حدته ، بالقبول ، بل واعتبره بمثابة : (الماء الزلال الذي تستنكره الآن أذواقهم ، لأن أذواقهم تربت على أن تجد للحقيقة طعما مرا كالعلقم ..) (ص139) ، ورأى أن الخنساء : (الآن تساوي يقظة في ضمير جيل الشباب ..)(ص140) ، بل واحتضنها (في مشهد استنكره الصويحبات وعمر…) يقول الراوي (ص141) .
4_ شخصية شروق : أو(الجنين الموؤود مرتين) كما اختار الراوي (ص143) ؛ تحكي عن نفسها بنفسها : (أنا الموؤودة ، لا تصدقوا أني قتلت ، وكيف تصدقون وأنا أحدثكم الآن ، بل كيف تصدقون ولم تعلموا الذنب الذي قتلت به … ؟؟؟) (ص143) ، أبوها كان يريدها ذكرا ، وهي أتت أنثى (ص144) ، فكيف يمكنها والحالة هذه أن تكون رجلا ولو تخيلا ؟؟ ، هذا هو السؤال الذي ظل يؤرقها (ص145) ، وتبحث له عن جواب في ذاتها ، بتغيير ملامحها وصوتها ، وقتل صوت الأنثى فيها (ص147_148) ، وتلبسها طائف (المثلية) ، بالمعنى الحربي لا الثقافي للكلمة ، تقول الرواية (ص149) ؛ كتابة هذا التنافر بين الذكورة والأنوثة ، وتتبع هذه المراوحة بين عالمين متقابلين ، في شخص (لمياء) ، قاد الراوي إلى توظيف معارفه المرتبطة بمبحث التحليل النفسي ، كما يمكن أن نقرأ (ص149) ، وقاد (شروق) بعدها إلى الإعتقاد في دور (هابيل) في مساعدتها للتخلص من هذا المأزق ، الذي بدا وجوديا (ص150) ، إذا صحت العبارة ، الشيء الذي سيتولاه (هابيل) حين سيسافر رفقة (سنبلة) لملاقاة (شروق) في باريس ؛ ومع تعدد اللقاءات وتقارب وجهات النظر (ص 208 إلى 215) ، بدأت (شروق) تتلمس طريقها نحو اكتشاف أنثاها من جديد ، على درب مريم ، في سورة مريم (ص220) ، الشيء الذي سيتحقق في نهاية هذه الرواية ، ويتوج برسالة دالة سيعمد الراوي إلى إثباتها في خاتمة هذا الحكي .
_الشكل أو كيف كتب هابيل هابليته : يحتفل هذا النص بملامح أسلوبية وشكلية متعددة ، بدا أنها كانت مبررة في أغلبها ، وأن مقام الحكي كان يقتضيها ، ونشير هنا إلى بعضها كما يلي :
_ التنصيص على حضور السارد إلى جانب الراوي ، والإعلان عن ذلك من قبل الراوي ، بشكل عرضي ، حين يقول : (يقصد السارد مصباح الصالة ..) (ص21) ، ما يعني أنهما معا ، الراوي والسارد ، سيتكلفان بتدبير مسارات الحكي ، في النص .
_ اعتماد تقنية تبادل الأدوار: بين الراوي وسارد أو ساردين ؛ نقرأ في الصفحة (29) كيف يتحدث هابيل عن نفسه تارة فيقول : ( وحين ولجت عوالم الدراسة من جديد ..) ، ثم يتحدث عنه السارد في نفس الآن والصفحة ، فيقول : (.. حين دخل هابيل تلك العوالم طامعا في الحصول على الإجازة ..) ، وفي الصفحة (87) يتحدث السارد عن مسألة الهوية في علاقة بداء كورونا ، مخاطبا شخصا مفترضا ، : (هاأنت أصبحت ذات هوية جديدة خاصة بك ..) ، ويدلي برأيه في الموضوع ، ليعود بعدها في الصفحة (88) لإتمام الحكاية عن هابيل بقوله :(أحس هابيل بألم يعتصر كيانه ..) ؛ نفس العملية التداولية ، كما نقرأ ، بين السارد والراوي نلحظها في الصفحة (125) ، أثناء تفاعلهما مع مرض حسام ، حيث نقرأ :..(وكانت معركته مع نفسه تشتد ..وكنت ترى الفتى يجهد نفسه ، وهي متعبة أصلا ، في أن يخط لمجرى الهواء سبيلا …) ، وفي الصفحة (153) نقرأ في نفس السطر: (حز في نفسي أني لم أجد سنبلة في لائحة المهاتفين …هل يبادر هو إلى التواصل معها .. ؟) ؛ وكما يمكن أن يتولى سارد ما مهمة الحكي ، يمكن بالمقابل أن يتدخل (هابيل : الراوي) بالموازاة ، ليتحدث عن أفعاله ويصفها كما يراها ، هو ، كما نقرأ في (ص267) : ( لم ينتبه إلى طرقاته بقية الشلة ، فقد لاذوا إلى سباتهم العميق … آه عليك لمياء.. تتعبينني ، وها أنا أتلقى لكمات التوبيخ من زميلة دربك سنبلة..) .
_ اعتماد تقنية تدخل السارد من خلف : وذلك حين يتعلق الأمر بالرغبة في التعبير عن وجهة نظر ما ، أو تحرير وصف معين ؛ في الصفحة (29) يصف شعور هابيل بولوج الجامع بقوله : ( حين تحرك هابيل في عالم عطائه هذا ، انفعل الوجود ، ..) ، وفي الصفحة (79) نقرأ ، تعليقا على ما يعتمل في الجامعة : (.. نحن بني آدم لم نغسل قلوبنا عندما صنعنا آلاتنا وعلومنا .. غسيل القلوب لا يدرس بمعاهدنا وجامعاتنا..) ، ولتوضيح موقف نفسي يبدو صعب التقدير ، تسأل سنبلة (هابيل ) عن عدم أخذه قسطا من الراحة ، فيجيب عنه السارد بقوله : ( هذه الصبية وغيرها لا يدرين أن خلايا دماغ هابيل قدت من نثار أرق رافقه منذ أن ساح في بلاد الله يبتغي تجددا لشرايين الحياة التي توشك أن تتكلس في دوامة العادة وبلادة الأعراف ..) (ص204) .
_ تقديم الشخصيات : قد يدفع الراوي شخصياته ، عبر مواقف معينة ، إلى الكشف عن بعضها البعض ، بما يؤدي في النهاية إلى تقديمها إلى القارئ ، بهذا الشكل أو ذاك ، ف(عمر) يتحدث عن (الخنساء) ، وهذه تتحدث عن (عمر) (ص35) ، ومن حديث الراوي عن (سنبلة) سنفهم العلاقة بين (عمر) و(لمياء) (ص37) .
_ اعتماد بلاغة العرفان : يبدو واضحا ، أن هذا النص الروائي يحتفل كثيرا باللغة ، بما هي أداة للكتابة والتعبير، كما يحتفل بها وهي تغادر صورتها الظاهرة ، لتتقمص صورة (عرفانية) ، تمتاح من قاموس صوفي ، إذا صحت العبارة ، ما يعني أن الراوي كان يبحث عن آفاق جديدة للتعبير ، عبر توظيف اشتقاقات لغوية مغايرة ، وغير معهودة ، تحفر في الذات ، ذات الراوي وقارئه الضمني معا ، لا سيما حين يتعلق الأمر بحالات وتيمات بعينها ، وهذه أمثلة للتدليل ؛ يصف إقبال سنبلة على المعرفة بأوصاف صوفية : (..كصوفية طلقت الدنيا وأقبلت على آخرتها.. ) (ص12) ؛ يصف (هابيل) تفاعله مع الطلبة بقوله : (.. وكهل خمسيني اللمحات متفاعل مع الحوار والنقاش كأنه في حالة جذب وتوحد .. تفنى معه المقامات ..) (ص17) ، ويعبر السارد ، بالمقابل ، عن شعور(هابيل) بالتواجد بالجامعة بكلام يفيض عرفانا يقول : ( حين تحرك هابيل في عالم عطائه هذا ، انفعل الوجود ، وكانت سنبلة عطاء ربه الكريم …شيخ تخطو أولى خطواتها في دروب الحياة ، ومريد أدرك بعضا من أسرار الأخذ والعطاء ، ثم اقترب ، ثم احترق ، ثم صار روحا لها مكاشفات وأذواق.. ) (ص29) ؛ ويصف (هابيل) عطاءه لأخواته ، بالعطاء الذي تباركه ستائر نوافذ البيت : (.. تبتسم جدران بيتي لي ، وترفرف ستائر النوافذ مباركة لي ..) (ص28) ، وفي موقف آخر ، يتولى السارد وصف شعور(هابيل) بعد ثناء المجموعة عليه بقوله : (أما هو، فقد تلاشت المسافات بين الهو والهو، …وانطلقت روحه في طوافها اللدني الذي لا تحده الأشكال والأرقام ولا تحتويه المظاهر والأوهام ..) (ص42) ؛ وفي شأن علاقة (هابيل) ب(سنبلة) يكثر أن يستعمل الراوي / هابيل لغة الشيخ والمريد (ص29_76_80_92_111_165) ، في إشارة إليهما معا ، وهما يتبادلان الأدوار؛ وفي شأن العلاقة بين الصويحبات ، يصفها الراوي ، ويريد (هابيل) أن يجعلها كصحبة : (أرباب الأحوال المتجاوزين للرسوم والأشكال ، والمتخيرين لعطر الروح الفواح .. )(ص80) ، وفي رسالة شكر بعثت بها سنبلة إلى هابيل صاغتها بعبارات مفعمة بالعرفان (ص92) ، وفي موضع آخر وصفته ب(أهل الصفاء) (ص111) ، مستعملة نفس (مقامات القرب) التي يستعملها هو أيضا في الحديث عنها (ص165) ، وفي لحظة حوار خاصة ، يصف الراوي علاقة هابيل بسنبلة ، في نص عرفاني بامتياز، يحكي عهود المشيخة بينهما ، كما يقول (ص178) ، وحين ألحت عليه (سنبلة) في سبق زيارته لبيتهم ، أجاب أن ذلك تم على مستوى الروح ، (ما ترسمينه من زيارات لم تكن خاضعة لقانون الأشياء كي تتسلل إلى الذاكرة ثم تنسى ، بل كانت خاضعة لمنطق الروح ، لذا فهي ليست ذكريات بل مقامات .. والمقامات ترتقى ولا تتذكر..) (ص179) . بدا أن هابيل أو الراوي أو سارد ما ، في لحظات كثيرة من هذا البوح (النص) ، كان يبحث عن أفق آخر للكتابة ، بما يمكنه من توقيع شعوره المتجدد والداهش ، وهو يقتحم الحرم الجامعي ، فردا أعزل ، إلا من ذاته العاشقة ، ثم وهو يحمل هابليته ليداري بها ، ما اعترضه من خيبات وتراجعات ، نظرية وسلوكية ، بدت ضاجة ومؤلمة ، وتتجاوز كثيرا أسوارهذه الجامعة .
1_ صويحبات الجامعة _رواية_ محمد إقبال عروي _ الطبعة الأولى 2025 _مطبعة الحمامة ،50، شارع أمزيان ، تطوان.
2_ قوله تعالى:(..لإن بسطت إلي يدك لتقتلني ما أنا بباسط يدي إليك لأقتلك ، إني أخاف الله رب العالمين ) سورة المائدة ، الآية (30) .