الهوية في زمن التحوّل: من مصطفى سعيد إلى دفاتر أبنائنا

الهوية في زمن التحوّل: من مصطفى سعيد إلى دفاتر أبنائنا

 

ا د. هاني الضمور

عندما كتب الطيب صالح روايته الخالدة موسم الهجرة إلى الشمال عام 1966، لم يكن يحكي سيرة رجل غريب الأطوار، بل كان ينقّب في أعماق سؤال الهوية بعد الاستعمار، ويطرح بصوت هادئ أسئلة لا تزال تتردد حتى اليوم: من نحن؟ وأين نقف بين تراث نعتز به وعالم يفرض نفسه بقوة؟ وهل يمكن أن تنهض أمة بجراحها، دون أن تفقد ذاكرتها؟
الرواية التي بدت يومًا ما عملاً أدبيًا صرفًا، أصبحت في زمننا مرآة لواقع تعيشه مجتمعات عربية كثيرة، حيث الهويات باتت ملتبسة، والمرجعيات تتأرجح، والمناهج الدراسية – التي يُفترض أن تُحصّن الوعي – أصبحت في بعض الأحيان ساحة للتجاذب، وربما أداة لإعادة تشكيل العقل الجمعي من خارج السياق الثقافي والوطني.

بين القرية والغرب: قصة ضياع لا تزال تتكرر

في الرواية، يعود الراوي من دراسته في أوروبا إلى قريته، ليقابل مصطفى سعيد: رجل حقق النجاح في الغرب، لكنه ظل غريبًا عن نفسه. تعلّم لغتهم، وكتب بلغتهم، وأحب نساءهم، لكنه في أعماقه لم يشعر يومًا بالانتماء الكامل. لقد كان – بكل بساطة – نتاج تصدّع داخلي في الهوية.
اليوم، وبعد أكثر من نصف قرن، لا تزال قصة مصطفى سعيد تُروى بأشكال جديدة. لكنها لم تعد فقط في الروايات، بل في دفاتر طلابنا، وفي مناهج تعليمية قد تُكتب بعيون لا تعرف الشرق كما يعرف نفسه.

من يكتب مناهجنا في دولنا العربية؟

في خضم التغيرات التعليمية التي تشهدها العديد من دولنا العربية، وفي ظل انفتاح متسارع على الشراكات الدولية والمبادرات العالمية في التعليم، تظهر أسئلة مشروعة لا بد من طرحها، لا من باب التخوين بل من باب التيقظ:

من الذي يُعيد صياغة المناهج؟

ومن يضع أولوياتها؟

وهل نملك أدوات مراجعتها قبل أن تُطبَع وتُدرّس؟

هل من المستبعد أن تتسرّب تغييرات تمس جوهر العقيدة، واللغة، والتاريخ، تحت مسمى “التحديث” أو “المواءمة العالمية”؟
وهل ننتبه لما قد يُحذف من تاريخنا الإسلامي والعربي لصالح سرديات غربية تُقدَّم بوصفها نماذج عالمية؟
أليس من الخطر أن يُربّى الجيل على ثقافة لا تُشبِهه، أو على رموز لا تُعبّر عنه؟

مصطفى سعيد ليس قصة فردية… بل احتمال يتكرّر

ما حدث لمصطفى سعيد في الرواية كان نتيجة لانفصال بين المعرفة والهوية. تعلم كثيرًا، لكنه لم يعرف نفسه. نجح في الغرب، لكنه فشل في أن يكون جزءًا من ذاته.
اليوم، نُخشى أن يُعاد إنتاج مصطفى سعيد، لا في الجامعات فقط، بل في الصفوف المدرسية، إن لم ننتبه لما يُدرّس لأبنائنا، وإن لم نشارك بفاعلية في صياغة محتوى يُعبّر عنّا ويصون هويتنا.
المناهج ليست نصوصًا حيادية. إنها أدوات تشكيل وعي، ومن يكتبها يرسم – من حيث لا يدري أحيانًا – شكل الأمة القادمة.

دعوة لاستيقاء الوعي… لا صناعة الخوف

لسنا ضد التعاون، ولسنا دعاة انغلاق. بل نؤمن بأهمية الانفتاح والتفاعل الحضاري. لكننا نؤمن أيضًا بأن الانفتاح لا يعني التذويب، وأن بناء التعليم لا يكون بإقصاء الذات، بل بالتصالح مع الأصل والانطلاق منه نحو العالم.
من حق طلابنا في كل دولنا العربية أن يتعرّفوا على ابن خلدون كما يعرفون أفلاطون، وأن يدرّسوا عن الفاتحين المسلمين كما يُدرّسون عن كولومبوس وتشرشل.
من حقهم أن يروا أنفسهم جزءًا من حضارة لها إسهام في التاريخ الإنساني، لا أن يُقدَّم لهم تاريخهم بوصفه ظلًا باهتًا لما يصنعه الآخر.

مناهجنا… مستقبلنا

رواية موسم الهجرة إلى الشمال لم تكن نداءً أدبيًا فقط، بل كانت تحذيرًا مبكرًا من خطورة فقدان البوصلة في زمن التحوّل. واليوم، وسط ما تشهده بعض المناهج في دولنا العربية من تغييرات، علينا أن نسأل:
هل نمتلك السيادة الكاملة على ما يُدرَّس لأبنائنا؟
هل نراجع محتوى المناهج بعين ناقدة أم نتركه بحُسن نية قد لا يكون في محله دائمًا؟
هل نُشرك علماءنا ومفكرينا في رسم السياسات التعليمية، أم نُسلّمها لمن لا يحمل همّ الهوية؟
من يكتب كتاب الطالب، يكتب قصة المستقبل.
فإما أن نُصيغها بأنفسنا… أو نقرأها لاحقًا كغرباء عنها.
كاتب اردني