د. عبد الناصر سلم حامد: الحرب السودانية في عامها الثالث: قراءة في صمود الجيش وشراكة الميدان مع الحركات المسلحة

د. عبد الناصر سلم حامد: الحرب السودانية في عامها الثالث: قراءة في صمود الجيش وشراكة الميدان مع الحركات المسلحة

 

د. عبد الناصر سلم حامد

تدخل الحرب السودانية عامها الثالث وسط دمار واسع وانهيار مؤسسي شامل، لكن في خضم هذا الانهيار برز تحالف فاعل بين القوات المسلحة وعدد من الحركات الموقعة على اتفاق جوبا. هذا التحالف، الذي بدأ كرد فعل ميداني على تمدد قوات الدعم السريع، تطوّر إلى شراكة سياسية وعسكرية تعكس لحظة نادرة من التقاء المصالح الوطنية بين الجيش وقوى كانت حتى وقت قريب ضمن المعارضة المسلحة.
في الوقت الذي تمددت فيه قوات الدعم السريع واستباحت مدنًا وقرى، كانت القوات المسلحة ومعها الحركات المتحالفة تصمد، تقاتل، وتستعيد السيطرة على الأرض. هذا ليس تقاربًا مؤقتًا، بل تحوّل استراتيجي قد يغيّر شكل الدولة السودانية القادمة.
الجيش، رغم التحديات، حافظ على تماسكه كمؤسسة، وتمتع بما لم تحظَ به المليشيات: التنظيم، والشرعية، والانضباط. أما الحركات المسلحة، فقد انحازت للدولة لا بدافع الولاء السياسي، بل لقناعة بأن سقوط الجيش يعني سقوط الدولة، وانهيار المجتمعات التي تنتمي إليها. قاتلت هذه الحركات إدراكًا منها أن اللحظة مفصلية: إما بقاء السودان، أو فقدانه بالكامل.
في مدينة الفاشر، التي تحوّلت إلى محور رئيس في الحرب، ظهر دور هذه الحركات بوضوح. قوات حركة تحرير السودان – جناح مني أركو مناوي، وحركة العدل والمساواة بقيادة جبريل إبراهيم، شاركت بفعالية إلى جانب الجيش في صد هجمات الدعم السريع. مشاركتها لم تكن رمزية، بل ميدانية مباشرة، شكّلت فارقًا واضحًا في حماية المدينة.
بفضل خبرتها القتالية ومعرفتها الجغرافية، استطاعت هذه القوات تأمين خطوط الفاشر ومنع اختراقها. هذا الأداء عزز ثقة السكان المحليين، وساهم في خلق حالة من الانضباط داخل المدينة، مقارنة بمناطق أخرى تعاني من الانفلات والفوضى. الفاشر أصبحت نموذجًا لتحالف عملي بين الجيش وقوى الهامش، يمكن البناء عليه سياسيًا لاحقًا.
لقد لم يقتصر دور الحركات المسلحة على مدينة الفاشر فقط، بل شاركت في القتال إلى جانب الجيش في مختلف جبهات السودان، من الخرطوم وبحري وأمدرمان، إلى النيل الأبيض والشمالية ودارفور وكردفان. هذا الحضور الواسع عزز من صورتها كقوى وطنية لا جهوية، وأكسبها ثقة المواطن السوداني في مختلف الأقاليم. لقد قاتلت كتفًا إلى كتف مع القوات المسلحة، وقدّمت العشرات من الشهداء في هذه المعركة، مما عمّق الشعور بالانتماء الوطني المشترك، ورسّخ فكرة أن معركة الدفاع عن الدولة لا تقتصر على الجيش وحده، بل يشارك فيها كل من يرى في بقاء السودان أولوية وجودية.
تشكيل القوات المشتركة لم يكن خطوة تكتيكية فقط، بل ضرورة عسكرية وسياسية. في مناطق أخرى كذلك، لعب الحضور المحلي للحركات المسلحة دورًا كبيرًا في ترجيح كفة الجيش، ليس فقط بقوة السلاح، بل بشرعية اجتماعية وشعبية.
ومع هذا التقدم، تظهر تساؤلات مشروعة: هل ستُدمج هذه الحركات داخل الجيش بعد الحرب؟ هل سنشهد شراكة حقيقية داخل مؤسسات الدولة، أم أننا أمام خطر إنتاج نسخة جديدة من “القوات الموازية” كما حدث سابقًا؟ هذه المخاوف حقيقية، لكنها لا تنفي أهمية التحالف الحالي، ولا تنقص من قيمته. الفرق الأساسي هذه المرة أن هذه القوى تقاتل من داخل مشروع الدولة، لا ضدها.
ما يحتاجه السودان الآن ليس تفكيك هذا التحالف، بل إدارته بذكاء سياسي يضمن تحوّله إلى جزء من مشروع وطني جامع. هذه لحظة يمكن أن تعيد تعريف المؤسسة العسكرية، لتكون أكثر تمثيلًا لتنوع السودان، وأكثر التصاقًا بمجتمعه. إن أُحسن استثمار هذه اللحظة، فقد تكون بداية إصلاح حقيقي.
الميدان نفسه يروي الفرق. في حين ارتبطت قوات الدعم السريع بارتكاب انتهاكات في المناطق التي دخلتها، حافظت القوات المشتركة على سلوك منضبط، ما أكسبها ثقة المجتمعات المحلية. في ظل غياب الدولة، نجحت هذه القوات في استعادة قدر من الأمن والنظام، وملأت فراغ السلطة بطريقة مقبولة شعبيًا.
لكن الحفاظ على هذا التقدم يتطلب حسن إدارة ما بعد النصر العسكري. فإعادة بناء الدولة ستكون أكثر تعقيدًا من المعركة في الميدان. المطلوب الآن ترجمة هذا التحالف إلى شراكة مؤسسية حقيقية، قائمة على الشفافية، والعدالة، والتعدد، والمصالح الوطنية المشتركة.
من قاتل دفاعًا عن الدولة لا يمكن إقصاؤه من معادلة ما بعدها. بل ينبغي أن يكون شريكًا في إعادة تأسيسها. هذه القوى التي التزمت ميدانيًا تحتاج إلى إطار سياسي عادل يحتضنها داخل الدولة، لا على هامشها.
في هذا السياق، تبرز مسؤولية القيادة العسكرية والسياسية في رسم ملامح المرحلة القادمة. من الضروري بدء جهود دمج المقاتلين، وإصلاح المؤسسة العسكرية، وتشكيل جيش موحد وتمثيلي. كما يجب صياغة ميثاق وطني يضمن مشاركة عادلة لكل القوى، ويضبط العلاقة بين السلاح والسلطة، وفق قاعدة: لا قوة خارج الدولة بعد اليوم.
على الصعيد الإقليمي، يجب إيصال رسالة واضحة: دعم استقرار السودان يمر عبر مؤسسات الدولة، لا عبر تسليح المليشيات. أما المجتمع الدولي، فمطلوب منه تجاوز بيانات القلق المعتادة، والانتقال إلى دعم حقيقي لجهود إعادة الإعمار والمصالحة.
وفي الداخل، فإن الإعلام والمجتمع المدني لهما دور لا يقل أهمية. يجب فتح نقاش حول شكل الدولة القادمة، وموقع الأقاليم في السلطة، وضمان ألا نعود إلى نفس السياسات التي فجّرت هذا الصراع من الأساس.
ختامًا، ما يجري ليس مجرد فصل دموي جديد، بل فرصة نادرة لصياغة مشروع وطني جديد. تحالف الجيش والحركات المسلحة، رغم هشاشته، هو أقرب ما يكون إلى نواة عقد جديد بين السودان ونفسه. هذا التحالف لا يجب أن يُخشى، بل يُستثمر. الدول لا تُبنى فقط بالقوانين، بل بمن وقفوا في الخطوط الأمامية دفاعًا عنها.
كبير الباحثين ومدير برنامج شرق أفريقيا والسودان في فوكس السويد
باحث في إدارة الأزمات ومكافحة الإرهاب