حميد عقبي: نهارٌ يتّسعُ كأجنحة الغياب للشاعر العراقي حسين السيّاب: تأمّلات في غياب المحبوبة والوطن
حميد عقبي
يندرج نص “نهارٌ يتّسعُ كأجنحة الغياب” للشاعر العراقي حسين السيّاب ضمن القصيدة الحديثة التي تعمل على المزج بين البوح الذاتي والتأمل في الوجود، في فضاء لغوي ينشط في استثمار الرمز والصورة للتعبير عن حالات الفقد والتيه، وتصوير الغربة والاندثار. يقدّم السيّاب في هذا النص رؤية شعرية تنطلق من غياب المحبوبة لتتشظّى باتجاه غياب أكبر وأشد قسوة: الوطن، والهوية، والذات.
يبدو المتكلّم هنا ذاتًا مأزومة، تلاحق ظلّها، وتبحث عن صوتها، في عالمٍ يفقد تماسكه كل لحظة، ولم تَعُد شمسه سوى قناعٍ للوهم. يتحوّل النهار، والذي هو رمز الحياة، إلى كيان شفيف بلا كتلة، “كأجنحة الغياب”، لتصير القصيدة برمّتها انعكاسًا لتجربة داخلية مأهولة بالتشظّي. يتكئ الشاعر على لغة تقترب من الترميز والتكثيف، وصور شعرية تحمل دهشة، تمزج بين ما هو حسّي وما هو روحي، ما هو مرئي وما هو خفي، بين التفاصيل اليومية (الضفائر، الأرصفة، الأزقة) والأبعاد الفلسفية (الزمن، الموت، الكينونة).
لم يطرح الشاعر الغياب في النص كفقدٍ طارئ، لكننا إذا تأمّلناه سنلاحظ أنه بمثابة شرط وجودي دائم، تعيشه الذات وتحاول تشكيله باستمرار. وبهذا، تنفتح القصيدة على أفق تأويلي رحب، يجعل من العلاقة بين الغياب والحضور، بين الحب والوطن، ثنائية متداخلة يصعب فكّ اشتباكها بسهولة، كونها تُعاش وتُكتب كشكل من أشكال الوعي الشعري الموجوع.
إليكم النص:
نهارٌ يتسعُ كأجنحة الغياب/ حسين السيّاب
أركضُ خلف ظلّي الهارب في ملامحكِ، كما لو أنني أطاردُ قصائدَ سقطتْ من رأسي
أو أمدُّ يدي لأقطفَ صوتي العالق في المسافة!
الشمسُ تخدعُني بابتسامتها
تمنحني نهارًا خفيفًا كأجنحةِ الغياب
تتركني غارقًا في صمتِ الأزقة
حيث الأرصفةُ لم تَعُد تُتقنُ البكاء…
وأنا التائه هناك
أذوبُ في ليلكِ
أبعثرُ قلبي على عتباتِ الريح
أربّتُ على جُرحٍ لم يكبرْ بعد
وأحملُ الأمنيات التي فاضت من حقائبِ العابرين
إلى حدودِ الموت
بينما في صورةِ أبي، الماءُ يهدُرُ كحلمٍ ثقيلٍ لا يصحو!
أخشى أن ألتفتَ إليكِ،
فأجدَني مجرّدَ كذبةٍ تأخّرتْ في الوضوحِ
كعابرٍ نسيَ خطاه في زحامِ الذكرى
كشظيّةِ وقتٍ نَسِيَتْها الساعاتُ في معصمِ الغياب
وضعتُ روحي بين يديكِ
كما يضعُ العطشُ فمَهُ في كفِّ السراب
مشّطتُ ضفائرَكِ بأصابعٍ أكلتها الفصول
ثم أطفأتُ وجهي في تفاصيلكِ
علّني أجدكِ!
تأمّلات في غياب المحبوبة والوطن
يشكّل نص “نهارٌ يتّسعُ كأجنحة الغياب” لحسين السيّاب نموذجًا شعريًا يعبّر عن احتراقات متعددة للذات في لحظة فقدٍ داخلي متراكب، حيث يتقاطع الحنين إلى المحبوبة مع شعور أعمق بالغربة، ثم يمتد رمزيًا ليطال الوطن، الذاكرة، والهوية المهدّدة بالذوبان.
منذ السطر الأول، يُفتتح النص بصورة ذات عالية التوتر:
“أركضُ خلف ظلّي الهارب في ملامحكِ”
هنا، الظل الهارب كأنه يجسّد نوعًا من انفصال الذات عن ذاتها، وذوبانها في الآخر، فالملامح لم تَعُد مألوفة لكنها تتحوّل وتراوغ، كما لو أن ملامح الحبيبة باتت أرضًا غريبة يُطارد فيها الصوت والهوية.
تتحوّل الشمس إلى كيان خادع وضبابي:
“الشمسُ تخدعُني بابتسامتها”
هنا الشاعر يفقد ثقته في النور، والنهار الذي صار هشًّا يفقد كثافته:
“تمنحني نهارًا خفيفًا كأجنحةِ الغياب”
ثم سنلاحظ براعة في تجسيد الأمكنة وتصويرها في هيئة ميتة:
“الأرصفةُ لم تَعُد تُتقنُ البكاء”
كل شيء يفقد لغته، جوهره، صوته، وحتى بكاءه.
ينتقل بنا النص من الحنين العاطفي إلى مشاهد حاولت تفكيك هذا الوجود المصاب بالاضطراب، كما في صورة الأب:
“في صورةِ أبي، الماءُ يهدُرُ كحلمٍ ثقيلٍ لا يصحو!”
إنه ماء الذاكرة الثقيل، حلمٌ لا يُنجز، وطنٌ لا يبتعد ويعود. في هذه اللحظة، تتعدّد تجليات صور الغياب كشرط ثابت وليس كحدث عارض قد ينتهي.
كما سنلاحظ تحوّلات تنزع نحو التشكيك في الهوية تظهر في:
“أخشى أن ألتفتَ إليكِ، فأجدَني مجرّدَ كذبةٍ تأخّرتْ في الوضوح”
المتكلّم هنا لا يرى ذاته إلا انعكاسًا زائفًا، شظيّة وزمنًا منسيًّا، يتوه بين الحب والذكرى والغياب.
يختم النص بمشهد بالغ التأويل:
“وضعتُ روحي بين يديكِ / كما يضعُ العطشُ فمَهُ في كفِّ السراب”
العطش هنا استعارة لهذا الكون الممزّق بالحروب والألم، والسراب هو الحبيبة/الوطن/الحلم، الذي لا يُرتجى منه خلاص.
هكذا تتّخذ القصيدة شكل مرآة لحالة نفسية مشروخة، يكتب فيها الشاعر ذاته من عمق الغياب، ويستعيد ملامحه عبر لغةٍ متوهجة، تعلو وتخفت بين الحسّي والروحي، بين الفقد وأمل اللقاء، لتمنحنا نصًا يتسم بالدهشة في شحناته التأويلية وكثافته الشعورية.
يفتتح السيّاب نصّه بمطاردة ظلّه الهارب في ملامح محبوبته، وينهيه بمحاولة العثور عليها في “تفاصيلها الحسيّة” بعد أن أطفأ وجهه، لتكتمل دائرة التيه والغياب. بين الفعلين سنجد أن المسار الشعري يمتدّ قوامه ليذوب في الآخر، وتتعثّر الرغبة المستحيلة في الاستعادة. الأصابع “التي أكلتها الفصول” تشير إلى ذاتٍ أنهكها الزمن، والوجه المنطفئ علامة على ضياع الهوية. ما بدأ كركض خلف الظل، ينتهي بانمحاء تام في التفاصيل، لتظلّ الحبيبة، كما الوطن، تبتعد وتتوه وتبتعد، نشعر أن الذات مشدودة إلى أملٍ شفيف، الرغبة في اللقاء تصبح وهمًا يكبر، يتضخّم الفقد والغياب، ويظلّ الشاعر ممسكًا بحلم واهن وصغير، قد يستعيد عافيته يوم يحلّ السلام.