الدكتور كايد الركيبات: قراءة انطباعية في رواية سنبلة قمح في خيمة غجر
الدكتور كايد الركيبات
صدر عن دار البديل للنشر والتوزيع في شهر كانون الأول/ ديسمبر 2024، الجزء الأول من رواية سنبلة قمح في خيمة غجر (في قلبي ملحد) للدكتورة دانييلا القرعان، جاءت الرواية في ثلاثة فصول، مكونة من 361 صفحة من القطع المتوسط، وقفت عند لحظات مهمة لم تكتمل، ادخرتها الكاتبة للجزء الثاني من الرواية، واعدة بأن ذلك الجزء سيحمل عناصر التشويق والمفاجأة ومفاتيح تفكيك السردية الروائية.
بحثت الرواية في العلاقات الاجتماعية، مع ارتكازها على العاطفة والطموح، والحب المذبوح بالخذلان، قدمت لنا شخصية الفاتنة الجميلة “جميلة” وقصة عشق خالص بينها وبين ابن عمها “جمال”، وقفت مصائب الدنيا بينهما، بدأت القصة قبل أن تأتي الأحداث على دور والدها الرافض لزواجهما لتقول لنا إن الوالدين لا يورثون أبناءهم المال والعقار فقط، بل يورثونهم الكراهية والبغضاء في بعض الأحيان، وحين تمردا على رفض والدها وأتما الزواج، ساق لهم القدر دسائس زوجة جميل الأولى “عبلة”، وشرور “سامر” صديق زوجها، ومكره في تدبير مؤامرة أنهت زواجهما، ليتزوجها هو شريطة تخليها عن ابنتها الوحيدة “سنبلة”.
دخلت سنبلة بوابة الحياة لتواجهها عقدة ذنب والدها، وغيرة زوجته “عبلة”، لينتهي بها المطاف سلعة تباع للغجر، فانقلبت حياتها من سنبلة “الطفلة ذات البشرة الذهبية الأقحوانية البيضاء المنمشة، والتي تشبه لون سنابل القمح تحت أشعة الشمس في صيف حارق” (ص: 217)، إلى “سمراء” المدبوغة بالفحم المنتسبة لأسمر زعيم الغجر الفتيّ، الذي أغرقته الأيام في عشق سمراء “سنبلة”، لتقف الموانع الدينية عائقاً أمام هذا العشق المحرم، فترث سنبلة عن أمها أسباب التعاسة والحظ السيئ، من هنا استمدت الرواية تركيبة عنوانها.
هذه الرواية ليست عن الغجر، بل عن كل من تشرّد نفسياً دون أن يُغيّر عنوان إقامته، فهي رواية لا تحتاج إلى تحليل… بل إلى إصغاء، أحياناً تكون قوة علاقاتنا الاجتماعية والشخصية وارتباطاتنا العاطفية هي الصخرة التي تتحطم عليها آمالنا وطموحاتنا.
وقفت الكاتبة بروايتها التي مزجت بين الغجر والضياع والحب والبحث عن الذات في وجه الآفات الاجتماعية محكومة بعقلية تحليلية ممنهجة بطريقة أكاديمية، ونفس سردي طويل. ثم جاءت رسائلها مدفوعة بقوة هذه العناصر، صرخت أن العدالة لا تكتمل إلا حين تُنصَف المرأة، فحين وصفت “سنبلة” بسنبلة القمح لجمالها ولون بشرتها فأنها تقول ما لا تكتب، تقول: إنها أنثى لا تنحني إلا للحصاد، إلا للعطاء إلا للخير.
تحدثت عن عاطفة قوية تمكنت من تصويرها بأسلوب أدبي جميل، حولت فيه الألم الفردي إلى ألم جماعي بصوت أنثوي بلا بكاء، فكتبت بلغة شفافة، ذات طابع وجداني وإنساني “الاحتواء أسمى مرتبة في مراتب العشق، غيابه يلغي قدسية العشق” (ص: 241)، “المرأة لا تريد من الرجل أن يكون معها في فرحها فقط … لكنها تريده أن يكون معها وقت حزنها الدفين الذي لا يكتشفه أي شخص” (ص: 292).
المواضيع التي طرحتها الكاتبة في سرديتها الروائية، ونوع اللغة المستخدمة، وحتى طبيعة الشخصيات، قد تكون مستمدة من نشاطها الوظيفي واهتماماتها الثقافية فالكاتب يكتب من موقعه الوجودي، لا من فراغ، لهذا لم تكن الرواية سرداً عاطفياً فقط، بل “حواراً بين الذات والقانون، بين الحرية والانضباط” بلغة مباشرة، مشحونة بالعاطفة والتصعيد الدرامي في السرد والتعبير المكثف عن المواقف الأخلاقية، فكانت في طرحها القانوني، تترافع “مرافعة عاطفية”، تسرد الفكرة كما لو كانت تمثلها، كما لو كانت تعتني بجراحها الخاصة، “الإنسان الذي يصاحب مجرماً يصبح متملكاً لصفاته الجرمية والعدائية… لتكن ثقتكم بالقلوب والأفئدة والأرواح التي لا مجال معها للتزييف والكذب والخداع، البرهان الحقيقي على صدق النوايا دائماً هي الأفعال” (ص: 60،61).
سنبلة دانييلا ليست قمحاً، إنها الذاكرة، والتمرد، والأنثى التي لا تخضع ولا تنكسر، والخيمة ليست مأوى، بل حالة وجودية مؤقتة لشخصيات لا تعترف بالجذور، لكنها لا تتوقف عن الحنين إليها، رسمت في الرواية مساراً طويلاً، للأخلاق والقيم، والخذلان، والرغبة في البقاء، والعيش غرباء رغم الانتماء، رسمت ذلك بالكتابة التي لا تقول كل شيء، لكنها تفضح كل شيء، “عندما يفوز القلب تبكي العيون فرحاً، وعندما يفوز العقل تبكي العيون فرحاً أيضاً، لكن عندما يخسر كلٌ من القلب والعقل تبكي العيون حزناً، إنها فلسفة تجعل العيون الضحية ما بين العقل والقلب” (ص: 104).
رواية “سُنبلة قمح في خيمة غجر” ليست نصاً أدبباً تقليدياً، بقدر ما هي نزعات تُخالج نفس القارئ، تتسلل من بين السطور كما يتسلل الغجر إلى ذاكرة المدن، بلا استئذان، بلا مقدّمات، ولكن ببصمة لا تُمحى. حتى الاستغراق في توصيف بيع سنبلة للغجر، ما كان بيع بقدر ما كان يعني التخلي، وكل تخل وإن حسنّا اسمه ولفظه يبقى في فلسفته وعمقه بيعاً، قد يكون هذا ما جعل الكاتبة تقدم سيناريو البيع على سيناريو الاختطاف.
لا تمارس الرواية خطاباً مباشراً، بل تُخفي موقفها في ثنايا السرد، ما منحها مساحة فكرية أوسع، ورغم أن البناء أحياناً تباطأ بسبب تمهل الكاتبة في تشريح المشاهد والانفعالات، وإثارة التساؤلات عن اتجاهات تشعب أحداث الرواية، إلا أن عنصر التشويق بدا حاضراً في النص السردي. استمعوا لصوت “سنبلة”، فقد تجدون فيه صدى أرواحكم. لقد نسجت الكاتبة الألم برفق، فجاء الجرح أنيقاً، صنعت من الكلمات مأوىً مؤقتاً لكل روح تائهة، ومنحت الحزن نبرة أنثوية قوية، بلا بكاء، وبلا استسلام.