أ.د. طالب أبو شرار: ملائكة وشياطين

 

أ.د. طالب أبو شرار

لم نألف عبر تاريخنا، حالةً واحدةً وصف فيها شخصٌ عاقلٌ نفسه بخصالٍ حميدة. بالطبع، لا تنطبق هذه القاعدة على الأشخاص فقط بل تشمل الشعوب والأمم. في العادة، من يقوم بإطراءِ طرفٍ ما هم الآخرون الذين خبروه وعرفوا خصاله وقديماً قيل مادحُ نفسِه كذاب! تتمحور المفارقةُ هنا في العديد من الحالات الغربية التي تُطلقُ فيها مجموعةٌ على نفسها خصالا حميدةً يستحي المرء القويم أن يصف نفسه بها. أنفَ المسلمون الأوائل مثلا أن يصفوا أنفسهم بالخيرين أو غير ذلك من خصالٍ حميدة بل نعتوا أنفسهم كرسلِ هدايةٍ الى الدين الحنيف وحاملي راية العدالة والسلام. لم يدَعوا أنهم ملائكة وعلى النقيض ولم يصفوا خصومهم بالشياطين. على سبيل المثال، وصفوا من أنفَ من الإسلام من غير أهل الكتاب بأنه كافر (أي يكفر بالإسلام) ووصفوا خصومهم من النصارى بأنهم أهلُ كتابٍ مثلهم وبعد استسلامهم دون الدخول في الإسلام وُصفوا بأنهم أهلُ ذمةٍ أي أن ذمتَهم أصبحت بيد المسلمين الذين سيدافعون عنهم ويوفرون لهم الأمن ويحفظون حقوقهم لقاء الجزية التي يدفعونها. على نقيض ذلك، أطلق الفرنجة على أنفسهم أوصافاً كالقديسين والمؤمنين والصلبيين وأطلقوا على فِرقٍ منهم مثل تلك الأوصاف ونعتونا نحن والمسيحيين الأرثوذكس بالكفار. استمر هذا الأسلوب الى أيامنا هذه فعلى سبيل المثال، نعت الرئيس الأمريكي الأسبق رونالد ريجان (رَأَسَ الولايات المتحدة لفترتين متتاليتين 1981-1989) الإتحاد السوفيتي بأنه إمبراطورية الشر (Evil Empire). بمعنى آخر، أراد أن يقول نحن دولة الخير! خلال فترة رئاسته الأولى، كنت أحضر للدكتوراة في الولايات المتحدة وكنت أتساءل عن مبررات وسبب جرأة رونالد ريجان في إطلاق وصف ٍكهذا على خصوم بلاده السياسيين لما فيه من مبالغات لا يمكن تصديقها لكنه بأسلوبه المسرحي وطلَتِه المنمقة كان حتما مقنعا للملايين من مُشاهديه الأمريكيين البسطاء. لقد زرت الإتحاد السوفيتي قبل استقراري في برنامج الدكتوراة في جامعة كاليفورنيا وتعرفت هناك الى العديد من الزملاء في حقل تخصصي العلمي فوجدتهم أناسا طيبين جدا ومعطائين بل كان بعضهم في منتهى السخاء معي. ومثل أولئك الذين عرفتهم في الإتحاد السوفيتي، كان لي أيضا صداقات حميمة وما تزال مع زملاء أمريكيين في منتهي الطيبة والإنسانية وهم حتما ليسوا من مؤيدي أفكار ريجان العدوانية. لذلك، تساءلت هل لدى ريجان أدلةٌ على ممارسات شريرة ينتهجها الإتحاد السوفيتي وتأنف منها الولايات المتحدة؟ وبحكم اطلاعي على سيرة رونالد ريجان الذاتية هو ونائبه آنذاك جورج بوش الأب لم أجد سوى ممارسات هي في جُلِها ممارساتٌ بعيدةٌ كل البعد عن النقاء والطهر فرونالد ريجان لم ينشأ في صومعةِ راهب بل كان فتىً سينمائياً عايش أجواءَ الممثلين والممثلات وما يكتنف ذلك من فجورٍ متعدد الأوجه. أما جورج بوش الأب وبحكم منصبيه كرئيس للولايات المتحدة (1989-1993) ومن قبل ذلك رئيسٍ لوكالة الاستخبارات المركزية كان المسؤول الأول عن فظاعات عديدة عبر العالم ربما أهمها غزو بنما في كانون أول 1989 وهو لم يتسلم رسميا بعد منصب رئيس الولايات المتحدة ثم غزو العراق الأول 1990/1991 وما واكبه من قتل وتدمير لشعبنا في العراق وما تلاه من حصار وعقوبات اقتصادية وتجويع استمر لأكثر من عقد من الزمان ثم تلاه غزو العراق الثاني في عهد ابنه (2001-2009) وتدمير ذلك البلد العربي الأشم. آنذاك، بثت محطات التلفزة الغربية مشاهدَ للطيارين الأمريكيين وهم يقصفون الآليات العراقية من مسافةٍ غير مرئية من الأرض ويضحكون ويتلفظون بعبارات مهينة قبل إطلاق صواريخهم كقول أحدهم: قل مرحبا لإلهك (Say hello to your God)! من يستمتع بالقتل وبالسخرية من ثقافة خصمه ومن يستهتر بالحياة الإنسانية هو حتما ليس انسانا سويا!  في الحرب التي شنتها الولايات المتحدة على العراق في العام 2003 وصفها جورج بوش الابن بأنها حرب صليبية أي أنها حرب مقدسة كان ذلك استحضاراً للحروب الصليبية ثم وصفها بأنها (العدالة المطلقة) مما أثار موجة استنكار في العالم الإسلامي لأن الله وحده هو العدل المطلق. أما في حربه على أفغانستان فقد تلفظ بعبارات قميئة مثل “سوف ندخنهم” وهي عبارة استخدمها الفرنسيون في حربهم الإجرامية على إخوتنا في الجزائر إبان حرب التحرير حيث كانوا يشعلون نارا عظيمة عند مداخل الكهوف التي يلجأ اليها الثوار وذوهم ويتركونهم يموتون اختناقا وشيَاً بوهج النيران الملتهبة.
وبما أن الحركة الصهيونية هي نتاج الفكر الغربي الاستعماري والإستعلائي فقد اعتمد الصهاينة الأولون واللاحقون ذات المنهج العنصري والإجرامي. عندما استوطن الأوائل منهم أرض فلسطين اعتبر أولئك الأوروبيون الشعبَ العربي الفلسطيني دخيلا على وطنه فلسطين. لم يطلقوا عليهم كلمة شعب بل نظروا إليهم كشتاتِ بشرٍ من العرب وغيرهم من الأمم تسللوا الى فلسطين من جزيرة العرب وغيرها من الأقطار من أجل الرزق وهم (العرب) يلوثونها حسب قول مناحيم بيجن الذي أطلق الإتحاد السوفيتي سراحه في ختام الحرب العالمية الثانية في صفقة تبادلِ للجواسيس مع الغرب ورُحِلَ الى العراق. قال ذلك المجرم عبارته تلك عندما وصل بالسيارة الى الحدود الأردنية العراقية فيما يعرف اليوم بالرويشد وشاهد العرب المنتشرين في المنطقة. يتباهى مجرم الحرب نتنياهو بأن زئيف فلاديمير جابوتنسكي (1880-1940)، ذلك المجرم الأكراني القبيح، هو مرشده الروحي الذي يتبنى أيديولوجيته (الجدار الحديدي) ويواظب على قراءة أعماله بل ويحتفظ بسيفه في عهدته الشخصية. وبناء على ما سبق، لا أعرف إن كان بيننا أحدٌ يظن أن هناك إمكانيةً للتفاهم مع معتوهٍ مثل نتنياهو! وفي محاكاة لأسلوب رونالد ريجان، يطلق مجرمُ الحرب ذاك على أعدائه من العرب والمسلمين وصفَ “محور الشر”! هو بذلك يصنف الفلسطينيين وبقية أعدائه بما ينطبق عليهم هم إذ لم ينظروا أبدا الى المرآة ليروا كم هم غرباءُ عن كامل المنطقة وكم هم خليطٌ منفرٌ من البشر. في هذه الأيام، يتحفز الغزاة اليهود لاستيطان المزيد من أراضينا في جنوب لبنان وهضبة الجولان بل وفي غزة ذاتها. أولئك الغزاة تجد فيهم الأوروبي والعربي والإفريقي والهندي والجنوب أمريكي بل والصيني، هم هيئة أمم لكن غير متحدة بل عبارة عن كتل بشرية متنوعة ألصقت ببعضها لتصنع مجتمعا مزيفا ينتظم تحت راية أسطورية. وبما أنهم “الملائكة” فلا بد وأن نكون نحن “الشياطين”. من أجل كل ما تقدم ومنذ بداية استيطانهم فلسطين، وصفوا المقاومين الفلسطينيين بالمخربين ثم غيروا الوصف الى الإرهابيين. تتمثل المفارقة في هذا الصدد باستخدامهم نفس المفردات التي استخدمها الاستعمار الأوروبي. على سبيل المثال، اعتبر المستوطنون الفرنسيون الجزائرَ أرضاً فرنسية رغم أن البحر الأبيض المتوسط يفصل بين بلادهم والجزائر كما اعتبروا أن من يعيش على أرض الجزائر من أبناء البلاد ليسوا سوى دخلاء لا يستحقون الحياة، لقد سلبوهم أراضيهم وحقوقهم الدستورية بل وحقهم في الحياة فكان قتل الجزائري يتم بذات السهولة والاستهتار الذي يُقتل به الفلسطيني اليوم. ورغم كل القتل والدمار الذي يجلبونه يصرون على وصف أنفسهم بالأخيار، هم ليسوا شريرين بل هم الضحايا إذ قالت جولدا مائير ذات مرة (لن نغفر للفلسطينيين أنهم أجبرونا على قتل أطفالهم). هل تناهى الى علم أحدكم قولٌ منحط كتلك العبارة، لن يغفر المجرم للضحية أنه أُجبِرَ على قتل أطفاله! بمعنى آخر، المجرم القاتل بريء والضحية هو المجرم! مثل أولئك الشواذ والمتطفلون على الإنسانية يصنفون البشر الى فئتين: هم (الطيبون) والأخرون هم (الشريرون). بعبارة أخرى، هم دوما ملائكة والأغيار لا بد وأن يكونوا الشياطين!
مفكر عربي