بين طهران وواشنطن كلّ شيء متوقع مفاوضات تفرضها شروط جيوبوليتيكية مختلفة

ادريس هاني

ليس متاحا لدول محكومة بشروط سايكس _بيكو  أن تتحدّث لغة السيادة. فمجرّد الأنس بهذه الجغرافيا الممزقة، هو تصالح مع الأمر الواقع. كيف تتحقق السيادة في جغرافيا ممنوحة؟ ولا زال العرب أسرى لنزاعات يفرضها انحشارهم في جغرافيا حموا حدودها وغرقوا في وحل خرائط ممزّقة.
اليوم أصبح الابتزاز عنصرا أساسيا في الضغط الدولي. فالشرق الأوسط تتداخل فيه ثلاث معضلات، بينها تداخل كبير :
– النفط
– الاحتلال
– البعد الغرب-أسيوي الواقع على حدود الهارتلاند
هل يا ترى ستكون المفاوضات بين واشنطن وطهران اليوم أفقا لإرساء سلام شامل وعادل في المنطقة؟
يدرك الطرفان إمكانات كل منهما، كما يدركان ما يسعى إليه كل طرف منهما. حتى الآن واضح أن طهران مهتمّة بشكل المحادثات التي تبعث من خلالها رسائل بأنّ التفاوض هنا ينبغي أن يكون ندّيا. هنا جدير بنا المقارنة بين ثلاثة نماذج من المحادثات جرت بين الأمريكيين في المنطقة:
-الحوار الأمريكي-المصري في عهد جمال عبد الناصر
– الحوار الأمريكي-السوري أيّام حافظ الأسد
– الحوار الأمريكي-الإيراني في أطواره المختلفة حتى اليوم
في 1952 بدت حاجة مصر إلى المساعدات الخارجية ملحّة. يحلل مايلز كوبلاند موقف جمال عبد الناصر بخصوص منهجيته في خلق توازن من خلال عواطف الجماهير التي واجه بها ما سماه كوبلاند بأصحاب النظرية الواقعية: مصر أوّلا. فأي احتجاج من هذا القبيل، كان سيضيع الفرصة على عبد الناصر ويقوّي يومها موقف الوزير دالاس. أدرك الأمريكيون لحظة موعد تقديم المساعدات بأن عبد الناصر عبّأ الجماهير بصورة مدروسة ليظهر للأمريكيين بأنه مقيد بسياسة الجماهير. الشعارات التي ترددت في اللقاءات التمهيدية كانت مبتذلة بتعبير كوبلاند: نريد استقرار المنطقة، السلام العالمي العادل للجميع، حيث استمرت هذه العبارات حتى أثارت شكوكا مرعبة في نفس عبد الناصر، إلى حد كان يعتبر إمّا أنهم مغفلون أو يعتبروننا كذلك. كان عبد الناصر حسب كوبلاند يدرك مسبقا بأنّ  المعاهدات المبرمة بين الدول الكبرى والدول الصغرى في آسيا أو أفريقيا، هي سريعة الزوال وسهلة النقض، ومن هنا يكون من السهل تملصه من بنودها في حال لم يرقه ذلك بمجرد ما يستلم المساعدات العسكرية. في تلك الأثناء وبشهادة كوبلاند وأيضا، كان من فاوضوا جمال عبد الناصر لم يختلفوا حول ذكائه ووضوح أهدافه. غير أنّ مصر يومها كانت مثقلة، فالطرف الأمريكي كان يراهن على موقف جمال عبد الناصر والنخبة بعيدا عما سماه بالموقف الديماغوجي للجماهير. لقد أدركوا بأن جمال عبد الناصر لم يكن ديماغوجيا هذا صحيح، فهو يدرك المدى الموضوعي للشعبوية، وبأنها إذا زادت عن حدّها دمرت نفسها بنفسها. وهو ما جعل كوبلاند يعترف بأنه لم يتوفر زعيم في التاريخ الحديث كان يعرف تماما ماذا تريد الغوغاء وإلى أين وجهتها أكثر من عبد الناصر. غاض تردد عبد الناصر الأمريكيين، لأنّه كان يأخذ بعين الاعتبار التيار العام. لقد كانت مصر في وضعية صعبة، الخوف من الإنجليز أولوية، حيث لم يكن عبد الناصر يشعر بخطر الروس.
هذه الحاجة التي أضعفت موقف عبد الناصر في شروط صعبة كما ظهرت إبّان الحرب، وانتهت بالعدوان الثلاثي، اختلفت بعد سنوات. كان حافظ الأسد بعد الثورة التصحيحية قد أثبت برنامج السياسة الاجتماعية وتعزيز الاحتياطي الاستراتيجي كما عزز قدراته من التسلح وحسم في اختيار حلفائه. كان عبد الناصر يحمل مسؤولية بلد عربي كبير، بدون احتياط ومن دون تسلح، مصر في بداية ثورتها التحررية. وقد تم استغلال وضع مصر  في مزيد من الضغط، هذا بينما لا زال شعب عبد الناصر على موقفه ذاك، الذي اعتبره كوبلاند وآخرين بأن الشعب المصري لا يعرف مصلحته، ليتبين بعد سنوات بأن عنصر القوة الاحتياطي ورأسمال مصر كان ولا زال هو شعبها.
قاد حافظ الأسد مفاوضات على قدر من الذكاء مع الأمريكيين، جعلت كبارهم يدركون ذكاءه الديبلوماسي، وكانت هناك اتفاقيات مهمة كاتفاقية مورفي-الأسد، تلك التي عززت من تعزيز قواعد الإشتباك. لكن سيراهن الأمريكيون كما سيعملون لاحقا في الرهان على الشعبوية للإطاحة بالأسد. وهذا موقف تناقضي، ولكنه يستند إلى حقائق موضوعية، وهي أنّ عبد الناصر استطاع أن يحتوي الجماهير، بينما لعبت الشوفينية والعصبية دورا ضدّ الأسد. فلقد اختفت الشعبوية خلف المفاوض الأمريكي، بل حتى ما سميّ بحوار السلطة مع المعارضة، كانت الثورجية مجرد ديكور لإتمام الحوار حول صفقة كان الأسد قد رفضها. وقد حدّثنا بشّار الأسد يومها ساخرا من أكذوبة المعارضة، حين قال بأنّ الحوار لم يعد ” سوري- سوري” بل أصبح ” سوري-ديميستوري”. وسبق وحدثني ريتشارد مورفي عن ذكاء حافظ الأسد، وبأنّه يعرفه جيدا، غير أنه لا يعرف بشّار، حيث قلت له بأنّ بشّار مثقف ويفهم إلى أين تسير الأمور. ربما سيتحدث التاريخ عن أنّ قضية بشار هي أنه أراد أن يدافع عن ميراث الثورة التصحيحية، في وقت ربح الغرب والرجعية الغوغاء.
تضعنا التجربتين أمام هذه المفارقة: الضغط على عبد الناصر للتخلي عن الديماغوجية، والضغط على الأسد لاتباع الديماغوجية، وكلاهما لن تنفع مع التجربة الإيرانية.
دخلت إيران المفاوضات ووضعت أرضية حاسمة في الشكل والمضمون، وهي في أطوارها كلها تركز على موضوعة السيادة والنِّدِّيَّة. لم تكتف إيران بالشعارات، بل أعدت مصادر قوة واقتدار وراكمت أوراقا كثيرة. ولم يعد أمام واشنطن سوى أن تتشبث بحوار طرشان، أي أنّ الحديث عن السلاح النووي ليس في أجندة الإيرانيين. وهذا ليس جهلا من الطرف الأمريكي، بل هو تكتيك تفاوضي لتبرير أي اتفاق قادم بأنّهم اقتنعوا أخيرا بأن طهران لا تنوي صناعة سلاح نووي. والحال أنّ قضية السلاح النووي هنا هو بمثابة السالبة بانتفاء الموضوع، فعلى ما سيتم الاتفاق إذن؟
لا يستطيع الطرف الأمريكي اللعب على موقف النخبة أو موقف الديماغوجية، فلقد مأسست إيران سياستها التفاوضية. فالقيادة العليا شكّكت في جدوى المفاوضات وعبرت عن عدم الثقة في الطرف الآخر، لكنها ديمقراطيا سمحت للحكومة القيام بالمحاولة لأنّ مبدأ التفاوض مقبول لدى طهران وإنما الخلاف في الشكّل، وبهذا التوزيع الديمقراطي حالوا دون استغلال تيار: إيران أوّلا. محاورو واشنطن من الإيرانيين على مدى السنوات الأخيرة مدركون للعقلية الأمريكية، بعضهم خريج جامعاتها، كما هو علي أكبر صالحي أو ظريف وغيرهم، لكن، حتى الآن بدأ المفاوض الأمريكي يتهجّى الفروق بين المفاوض الإيراني والمفاوض العربي، وقد كان عبد الناصر هو الأقوى من بينهم، ولكن الشروط الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لمصر أنذاك حالت دون إنجاح مشروعه. تدخل طهران المفاوضات وهي غير محتاجة إلى المساعدات الاقتصادية الخارجية،  لا تريد منهم سوى أن يفرجوا عن أموالهم، كما أنها بنت ترسانة عسكرية مهمّة جعلتها أكبر قوة عسكرية وتعبوية في الخليج والشرق الأوسط. لن يستطيع الطرف الآخر أن يضغط على طهران لا بإظهار مصالحها الاقتصادية ولا بقوة الديماغوجية الشعبية ولا بالقدرة العسكرية.
ويبقى الملف النووي بمثابة بيضة القبان كما ذكرنا سابقا في مسلسل المفاوضات بين واشنطن وطهران. فلقد أنجزت إيران صناعة نووية مدنية انعكست على قطاع الكهرباء والصّحة وباتت تصدر أنواعا من الصناعات الإشعاعية الطبية. وسبق أن دشنت في عهد رئيس هيئة الطاقة النووية علي أكبر صالحي أول مركز متخصص للطب النووي في مستشفى طب الأطفال، كما تمّ إنشاء مركز إنتاج وتطوير العقاقير المشعة ومركز العلاج بالأيونات. وكان د. على أكبر صالحي قد أعلن منذ 2016 عن بدأ العمل في مجال تقنية الكوانتم، مؤكدا أيضا أنّ طهران أنتجت أول فوتونات متشابكة في المركز الوطني لعلوم الليزر في إيران. مصرحا بأن لا دولة في الشرق الأوسط أجرت مثل هذه التجارب، بل حتى على الصعيد العالمي ليس هناك إلاّ بعض الدول التي توفرت على ذلك، كالنمسا والولايات المتحدة والصين وروسيا والهند وبريطانيا وكندا والاتحاد الأوروبي.
هذا يعني أنّ طهران لم تتوقف عن إجراء تجارب نووية في المجالات المدنية، وهذا ما يعني أنّ المسألة تتعلّق بتعطيل تطويرها لبرنامجها المدني.
قضية الكذب في السياسة الخارجية ليست جديدة، الإيرانيون جرّبوا ذلك، منذ زيارة ماكفرلين، الذي كان يسعى لإقناع الإيرانيين في البداية بأنّ الخطر سيأتيهم من الاتحاد السوفياتي، وهناك معلومات تؤكد على أنّ السوفيات يخططون لغزو إيران. نسب المعلومة المسربة إلى جنرال مختلق إسمه فلاديمير. يؤكد ديفيد كريست بأن ذلك كان كذبة لفقها ماكفيرلين يومئذ. حصل هذا يوم كان الإيرانيون في عهد ريغان في حاجة إلى قطع من السلاح. هل يا ترى يملك ترامب اليوم ما يقنع به الإيرانيين في محادثات لن تجدي شيئا ما لم تتمتع بالثقة ومستوى تفاوضي على قاعدة(Win–win)؟
كان وزير الخارجية الأسبق د. علي أكبر صالحي الذي حظي بثقة حكومتين تختلفان في التّوجه: حكومة خاتمي وحكومة أحمدي نجاد، قد قاد تلك المفاوضات، وحظي بثقة الطرف الأمريكي الذي وصفه يومئذ بالمعتدل. وهو اليوم يعلّق على المحادثات الجارية بمسقط، بأنّه يتعين على”على أمريكا أن تفهم أن الحوار هو الحل الأمثل، خاصة في الوقت الراهن”،  محذّرا إياها من أي مغامرة في اتجاه الحرب، على اعتبار أنها إن شنت هذه الأخيرة حربا على إيران، “فلن تتمكن فقط من إدارتها أو وضع حد لها، بل ستواجه عواقب وخيمة تزيد التوتر وتزعزع الاستقرار في المنطقة والعالم، بما في ذلك تداعيات تمتد إلى أوكرانيا وتايوان”.
أستطيع التّأكيد هنا، بأنّ الإيرانيين جادّين في إجراء مفاوضات على الشروط التي تؤول إلى مخرجات حقيقية، وهي تتجلى في مجموعة مطالب، بعضها يتعلق بالأمن القومي الإيراني، سياسة التدخل، رفع العقوبات، الإفراج عن الأرصدة الإيرانية… فنجاح مفاوضات من هذا القبيل من شأنه أن يحدث تحوّلا في المزاج الجيوبوليتيكي، وتخفيض للتّوتر الإقليمي، لكن النّفط والاحتلال ومتاخمة الهارتلاند، سيزيد الوضع تعقيدا، فالاحتلال يخشى من نجاح المحادثات دون مقايضة ذلك بالموقف من القضية الفلسط..ينية، الوعود الترامبية عالية، لكنها تنتمي إلى صنف الخيال السياسي، قد يكذب الاحتلال على واشنطن والعكس صحيح، أكاذيب الحلفاء فيما بينهم، وعلى الرغم من كلّ هذا، فإنّ رهانات ترامب هي سوبر-اقتصادية، وهي المحدد الأسمى لتوجهه السياسي، مما يجعل الأمر فرصة وتجربة تستحقّ العناء.
كاتب ومفكر مغربي