الدكتور سمير مفيد القرم: هل ما زال الحلم الفلسطيني ممكنًا؟
الدكتور سمير مفيد القرم
في كل يوم يُسحق فيه الأمل تحت جنازير الاحتلال، ويُصادر فيه الحق، يُطرح هذا السؤال من جديد: هل ما زال الحلم الفلسطيني ممكنًا؟ هل بقي للحرية مكان في زمنٍ باتت فيه الحقوق تُباع على موائد السياسة، وتُشترى بالصمت؟
منذ نكبة 1948 وحتى اليوم، والشعب الفلسطيني يُقدّم التضحيات جيلاً بعد جيل. مقاومته لم تنكسر، وصموده لم يتراجع، لكن المشروع الصهيوني لم يكن ليستمر لولا غياب مشروع حقيقي يواجهه… مشروع بمستوى الأمة، لا بمستوى الحدود.
الحقيقة التي بات يدركها الكثيرون هي أن الحلم الفلسطيني لن يتحقق بمجرد التفاوض أو التنازل، بل بتحقيق تغيير جذري في واقع الأمة الإسلامية والعربية. الحلم الفلسطيني ليس حلم شعب فقط، بل هو قضية أمة كاملة، ومفتاح نهضتها.
لن يكون هناك تحرير حقيقي بدون دولة تحمل همّ القضية كجزء من عقيدتها، لا كمجرد ورقة تفاوض أو شعار عابر. دولة إسلامية توحد جهود الأمة، وتعلن أن القدس ليست قضية وطنية بل قضية عقيدة، وأن حماية المقدسات مسؤولية جماعية، لا مبادرة فردية.
الاحتلال ليس فقط احتلالًا عسكريًا، بل هو احتلال فكري وثقافي واقتصادي فرضه الغرب على شعوبنا منذ أن مزّقنا إلى دويلات، وربط مصيرنا بإرادته. تحرير فلسطين يعني أيضًا التحرر من الهيمنة الغربية، وإعادة السيطرة على قرارنا، وخيراتنا، وثرواتنا.
أثبتت التجارب أن التجزئة كانت خنجرًا في خاصرة القضية الفلسطينية. لا يمكن لدولة واحدة أن تواجه وحدها منظومة احتلال مدعومة من القوى الكبرى. وحدها الأمة إذا توحدت، بقدراتها وجيوشها ومواردها، قادرة على قلب المعادلة.
نعم، الحلم الفلسطيني ما زال ممكنًا، لكن ليس في ظل الواقع الحالي. إنما حين تنهض الأمة من جديد، وتخلع عنها قيود التبعية، وتستعيد هويتها الإسلامية، وتقيم دولةً على أساس الإسلام، تجعل من تحرير فلسطين واجبًا شرعيًا، لا مجرد شعار.
الحلم الفلسطيني هو بوابة نهضة الأمة… ولن يتحقق إلا عندما تصبح القدس عنوانًا لمشروع حضاري شامل، يعيد للمسلمين كرامتهم، وللعالم توازنه المفقود.
من أبرز العقبات أمام نهضة الأمة وتحرير فلسطين هو الاستنزاف المستمر لخيرات العالم العربي والإسلامي من قبل القوى الغربية. ليس سرًا أن منطقتنا من أغنى مناطق العالم بالموارد الطبيعية، لكن هذه الثروات لم تُستخدم يومًا لصالح شعوبها، بل كانت وما زالت تُنهب وتُدار لخدمة مصالح الاستعمار الحديث.
يُقدّر أن الوطن العربي يمتلك نحو 55% من احتياطي النفط العالمي المؤكد، وتحديدًا دول الخليج والعراق. كما يحتوي على أكثر من 27% من احتياطي الغاز الطبيعي العالمي، خاصة في الجزائر وقطر. يضم الوطن العربي أراضٍ زراعية خصبة، وسواحل استراتيجية تمتد على آلاف الكيلومترات، منها ما يُعدّ من أهم الممرات البحرية في العالم، مثل قناة السويس ومضيق هرمز وباب المندب.
لكن رغم هذه الثروات، يعاني الملايين من أبناء الأمة من الفقر، ويعتمد معظم حكامها على الدعم الأجنبي، في مشهد يُظهر حجم التبعية وفقدان السيادة.
رغم الحديث المتكرر عن “الاستثمارات الأجنبية” في الدول العربية، فإن كثيرًا منها ليس استثمارًا بالمعنى الإيجابي، بل شكل حديث من أشكال السيطرة الاقتصادية. في المغرب، تسيطر شركات فرنسية على أكثر من 60% من قطاعات حيوية مثل الماء والكهرباء والنقل الحضري، ما يثير غضبًا شعبيًا واسعًا. في العراق، تُقدّر الاستثمارات الأجنبية في قطاع النفط بأكثر من 85% لصالح شركات أمريكية وبريطانية، مع غياب شبه تام لأي سيادة وطنية على الإنتاج أو التسعير. في السودان، خلال العقود الأخيرة، تم منح ملايين الهكتارات من الأراضي الزراعية الخصبة لشركات أجنبية، في حين يبقى الشعب يرزح تحت خط الفقر. حتى قناة السويس، التي تُدرّ ما يفوق 9 مليارات دولار سنويًا، يتم ربط عائداتها بقروض وشروط صندوق النقد الدولي، ما يُضعف من استقلال القرار الاقتصادي المصري.
إذا كانت الجيوش تُسقط أنظمة، فإن الإعلام يُسقط العقول. تلعب القنوات الفضائية، والمنصات العالمية، دورًا كبيرًا في حرف وعي الشعوب، وتزييف حقيقة الصراع في فلسطين. بدل أن يُعرض الاحتلال كجريمة مستمرة، تُقدّم القضية وكأنها “نزاع حدودي” يمكن حله بتنازلات. تُظهر دراسات إعلامية أن أكثر من 70% من التغطية الغربية للصراع الفلسطيني تبرّر أفعال الاحتلال أو تضع الطرفين في كفة واحدة. حتى في الإعلام العربي، يتم تغييب الحديث عن التحرير الكامل وضرورة وحدة الأمة، لصالح التركيز على “حلول الدولتين” أو “التطبيع” أو “المفاوضات”.
أما في الترفيه، فالمسلسلات والأفلام تُستخدم لتسطيح القيم، وتقديم نموذج مشوّه للهوية العربية والإسلامية، وتشجيع الاستهلاك، والرضا بالواقع.
ليست هذه أول مرة تمر بها الأمة في حال ضعف، وليست هذه أول نكبة، لكن التاريخ يشهد أن النهضة ممكنة حين تتوحد الإرادة. في العهد العباسي، كانت الدولة الإسلامية تمتد من المحيط الأطلسي إلى حدود الصين، وكان بيت المال يحتضن من الخيرات ما يكفي لسد حاجة الأمة وتحقيق الاكتفاء الذاتي. في زمن الخليفة عمر بن عبد العزيز، لم يُوجد من يستحق الزكاة، لأن العدالة الاقتصادية والاجتماعية كانت واقعة ملموسة. حتى صلاح الدين الأيوبي، لم يحرر القدس إلا بعد أن وحد مصر والشام تحت راية واحدة، وأنهى حالة التشرذم السياسي، فكان التحرير نتيجة طبيعية للوحدة والقوة.
إذًا، القضية لم تكن يومًا قضية شعب وحيد، بل هي قضية أمة مخدوعة ومقسّمة، منهوبة الثروات، مشوّهة الوعي. والحلم الفلسطيني لن يتحقق إلا حين تستفيق هذه الأمة، وتوحد إرادتها، وتُقيم دولة قوية، راشدة، تحمل مشروعًا حضاريًا حقيقيًا، وتجعل من تحرير فلسطين بوابةً للنهضة، لا نهاية لها.