الطِيرَة واليمام

علي الزعتري
قرأتُ قبل أيام خبراً عن جريمةٍ وقعت بمدينة الطيرة الفلسطينية، من الأراضي المحتلة منذ ١٩٤٨ حيثُ التاريخ يقول أن قبائل الطيري اليمنية سكنت منطقتها فتَسَمَّت بها. أحدهم أردى آخرَ فلسطينياً من الطيرة فقتلهُ ثم هربَ إلى مدينةِ رام الله، وهي مقر السلطة الفلسطينية وتحت إدارتها، واختبأ هناك. “اليمام” ليس الطير الوديع بل وحدةً عسكريةً في الشرطةِ الصهيونية الحدودية تأسست عام ١٩٧٤ لملاحقة المقاومين، وهي فرقةٌ عاليةَ التدريب خبيرةٌ في المداهمات، وقاتلةٌ دون رحمة. تتبعتْ “اليمامُ” القاتلَ إلى رام الله و داخل العمارة والشقة حيث اختبأ وقبضت عليه وعادت به للطيرة، لتقديمه للعدالة كما يقول الخبر. وأقولُ يحدث هذا في بلدٍ مُحتلٍّ تَذبحُ الصهيونيةُ العدالةَ فيه كل ساعة. لم يذكر الخبر دوراً للسلطة الأمنية الفلسطينية، رغم الكلام المعروفِ عن التنسيق الأمني. العدالةُ تأخذ مجراها؟ أم أنها المهزلةُ تكتملُ أركانها؟ بعضٌ من كليهما، بالتنسيق و من دونهِ.
هل هي المرة الوحيدة التي تسقط عندها السيادة الفلسطينية، وكذلك بالمُجملِ شعارات السيادة العربية؟ بالطبع لا. الصهيونية تخترقُ السيادة العربية منذ عقودٍ طويلة وأسهلَ خرقٍ لها هو في فلسطين السلطة لأنها للصهيونية مجرد فركة رجل وهي تعلم أن ما من أحدٍ في السلطة سيوقفها. كما لم يستطع إيقافها دولٌ عربيةٌ أقوى من السلطة عندما قررت الصهيونية انتهاك سيادتها كي تغتال وتقصف وتخطف وتخرب وتتجسس. اليد الصهيونية طويلةٌ و مؤلمةٌ في ضرباتها ليس فقط لكفاءتها أو للدعم الذي تلقاهُ من حلفاءها، مما يمكنها من أداء عملياتها الإرهابية بسلاسةٍ وبضمنها الدخول والخروج من مسرح العمليات بيُسرٍ حين تستخدم على سبيل المثال جوازات سفرٍ لبلدان هي إما أنها صحيحةً أو مُزيفةً لهكذا عمليات مما يستحيل تمييزها، ولكن كذلك وربما هو الأهم لغياب الردود الفلسطينية والعربية عليها أثناء و بعد العمليات، إلا فيما ندرَ، و لا يَتَعدَّى الشجب و الشكوى. “عفا اللهُ عما سلف” هو شعار العرب أمام الاعتداءات الصهيونية بالإضافة للنسيان الاختياري وتكنيس الأحداث لزوايا مهملةً لا يذكرها ذاكرٌ أو كتابٌ في التاريخ العربي. لا يتعلم الطلبة العرب في المدارس ماذا وكيف ومتى فعلت الصهيونية ببلادهم وأهليهم وإن علموا فالمعلومةُ لا تأخذهم والمجتمع لأبعدَ منها. تغييبهم عن هذه الحقائق و تغييب الرد الرادع على الاعتداء يخلق هذه الحالة العربية المتواترةَ الأجيال من الاسترخاء المائع فتصبح عندها الاعتداءات مُتعةً تَنَدُّرِيَّةً أشبه بمن يغوى ألمَ الضربِ، و هي السَّادية.
تنتشرُ الآلة القاتلة الصهيونية بأذرعها مُحيطةً بنا و لا تقتصر على السلاح بأنواعه. إنها ظاهرةً في العلوم الإنسانية الجادة و الطبية والهندسية والتقنيات المتقدمة وفي الفنون والرواية بل وفي كل مجالٍ إنسانيٍّ. كلها مُعَدَّةً للاختراق لخلق الفرصة واقتناص الهدف. بل أنها موجودةٌ في مسؤولين غربيين يمثلون الصهيونية و مصالحها بأفضل مما يفعلون لبلادهم. رأينا خبير آثارٍ في السبعينات من العمر يقفز لجنوب لبنان مع الجيش الصهيوني، و قد تمَّ قتلهُ علي يد المقاومة، ومهمته كانت زرع القصة التوراتية هناك. و رأينا مسؤولةً أمريكيةً تلوي ذراع لبنان خدمةً للصهيونية. يتم تزوير و تقليب الحقائق العربية التراثية لتصبح يهوديةً فالطعام الفلسطيني صار يهودياً وصورة الأقصى دليل سياحةٍ. في جنوب سوريا زياراتٌ حاخاماتيةٌ يرعاها الجيش الصهيوني المحتل لتقول أن الأرض لها دينياً، وفي دمشق بات التنادي بترميم المساكن والمعابد اليهودية شيئاً يكتب الإعلام عنه. وفعل بعض “المتسللون” اليهود للجزيرة العربية ذات الشيء في تذكيرٍ بالقبائل اليهودية التي نفاها أو قضى عليها الإسلام بعد خيانتهم للعهود، وزاروا بساتين نخيلٍ و حصونٍ قالوا أنها لهم وأنهم لها عائدون. لسنا ضد معبدٍ و منزلٍ و لكننا ضد استهبالنا بالتسامح الديني في الوقت الذي يقوم الصهيوني اليهودي فيه بهرسِ أجسادنا في فلسطين ولبنان وسوريا واليمن. ذاع صيت الوحدة ٨٢٠٠ التي تحاربنا إلكترونياً وأظنها باتت من الماضي الذي تطويه وحداتٌ صهيونيةٌ أكثر تقدماً و تطوراً لا نعلمها، ولا يزال بعض العرب يقولون أن الوحدة ٨٢٠٠ تزرع الفرقة بين العرب، وهي نكتةٌ معتبرةٌ فعلاً لأننا مفترقون دون عونٍ، ويكفي مثلاً التعليقات العُنصرية العربية ضد بعضها البعض في وسائل التواصل مما يندى له جبين الأدب و الانتماء. في سوريا الخمسينات كاد جاسوسٌ صهيوني مُخترِقٌ أن يحكم ثم أُكتشف و أُعدِمَ، و تبحث عن جثته الصهيونية بكل وسيلة حتى أنهم وجدوا و استرجعوا ساعة يدهِ بمساعدةٍ من الروس كما أُشيع. في العراق كانوا من أوائل الداخلين مع القوات الأمريكية بعد الغزو المرير لينبشوا تاريخهم و يستعيدوا من المتاحف ما استطاعوا من لفائف و كتب و آثار و مؤخراً اكتشف العراقيون واعتقلوا باحثةً صهيونيةً جالت العراق. ينادون الآن للعودة لليبيا و لهم في تونس والمغرب مواطئ أقدام راسخةً. و خلقوا في البحرين والإمارات بعد التطبيع مجتمعاً يحظى بالرعاية. وزيرةٌ أردنيةٌ للسياحة سابقةً قالت بتصريحٍ إعلاميٍّ منشور أنهم يدخلون البلاد بصفات السواح و يدفنون بأماكن محددة قطعاً أثريةً ليعودوا بعد زمن بقصةِ أن الأرض لهم. المفكر الراحل عبد الوهاب المسيري قال أن “إسرائيل” ستحاربنا بالعربِ المتهودين و نرى هذا اليوم بالشكل الصريح فيمن يستقبل الصهيوني وينسق معه ويفتح له الأراضي والسموات العربية المدنية والعسكرية. بعض الدول العربية تقتَصُّ من مواطنيها لأتفه الدواعي و تغمض النظر عندما يظهر في الإعلام الذي ترعاه من يحاور و بعضهم يمدح و يكيل الثناء في اتصالٍ مباشرٍ مع عدو الله والبشرية. هل ليس هذا إلا خرقاً للسيادة العربية؟ بلى. ويتساوى هذا مع طلب العلم في الجامعات الصهيونية وتلقي العلاج بالمستشفيات الصهيونية و التسوق من تجارتها و الاستمتاع بمنتجاتها السينمائية المُهينة لكل عربي.
لم يبْقَ إلا وقتٌ قصيرٌ قبل أن تضع الصهيونيةُ يدها في الأقصى وتفعلَ فيه ما فعلته في الحرم الإبراهيمي و تُزيحَ المسلمين جانباً بمباركاتٍ أمريكية من سفيرها الذي يرى هيكلاً مكان الأقصى وأن واجبهُ “النيو صهيو مسيحي” يعطيه حق إقامته على أنقاض الأقصى. سيفعل هذا بالتنسيق مع وزير دفاعه المتوشم بوشمِ “كافر” الذي أظهرته وسائل الإعلام في استعراضٍ فَظٍّ “رامبوي”. غالباً لن يتحرك العرب حين ينغرز الفأس الصهيوني في رأس الأقصى بغيرِ ما كانَ منهم في سابقِ الأيام و سيغدو يوم أَخْذِ الأقصى مثل ذكرى حرقهِ (٢١ أغسطس ١٩٦٩) التي لا يذكرها اليوم أحد بل أن نكسة ٥ حزيران ١٩٦٧ تأتي وتذهب دون أثرٍ في النفوس المتبلدة من كثرة الهزائم والنكسات وتغطيتها بالانتصارات المسرحية. هل أتوقع هذه الكارثةَ المستقبلية؟ نعم، و أعظمَ. لم يترك لنا كثيرُ العرب و كثير الفلسطينيين ملاذاً من انتظار الأسوأ في هذه العلاقة المحبوكة بالدماء مع الصهيونية من جهةٍ و المطرزةِ بالمال المُطَبِّعِ و التنسيق من جهةٍ ثانيةٍ. والخيانة للأصول كذلك. كيفَ إذاً تفهم تجنيد عربَ فلسطينيين و دروز في الجيش الصهيوني يتباهون؟
لا يوجد سيادةٌ إلا مظهرياً فالكل العربي والفلسطيني مُخترقٌ. لا أقولها شماتةً ولكن حسرةً فأراذل البشر ينتهكون كل مُحَرِّمٍ ولا يقف بوجههم إلا قِلَّةٌ تكاد تُباد. إن كان المقاتل في غزة يذوق الأَمَرَّينْ فكيف بحرسِ الأقصى الأعزل وهو يواجه موجات الغزو الصهيونية؟ لا ينتفض العربي غاضباً مقاتلاً اليهود على انتهاك المحرمات لكنه مستعدٌ للقتال مع إخوتهِ صوناً للسيادة. سيقولون أن العالم كله يعيش هكذا و الحقيقةُ أنه لا يعيش هكذا أبداً. هناك من يدافع عن وجوده حتى النصر أو الفناء ولا يبقى ذليلاً. لكننا مُجبرين أن نقتنعَ أن وجود “إسرائيل” مسألةٌ لا يمكن نقضها ومقاومتها. أنها خُلِقت لتبقى و إن نهشتنا واحداً تلو الثاني. أننا ننجو بمسالمتها، وأن تكبيل أي منغص للسلام هو شعارَ السيادة. اقتنعنا أن السيادة هي كل معنىً يحفظ الأوطان من كل خطرٍ وتهديدٍ بِشرطِ مسالمةِ الصهيونية لأن معاداة الصهيونية تخلخل ميزان انتمائنا للعالم الديمقراطي الحر.
إن ممارسةَ السيادةَ الحقَّةَ مُتعِبةً مثل ما هي حمايةَ فلسطين مُتعِبةً، ذلك لِمَنْ خَشِيَ ربهُ و مآلهُ، و دونهم يهون كل تعب. ربما يود العرب وكثيرٌ في العالم لو لم تكن هناك مأساة فلسطين الفاضحةَ للسوآتِ الأخلاقية التي تضرب كل قانونٍ وضعه البشر لحماية حقوق الإنسان والكاشفةَ لانتقائيةِ السيادةِ لكنها مأساةٌ لا تَفنى و لا تذوي وستُبْقي الدربَ المؤدي لتحرير فلسطين طاهراً شاهداً و بإذنِ الله منصوراً. وعداً عليهِ حقاً. أما الطيرة فستعود حتماً وسيحلق بسماءها يمامٌ فلسطينيٌّ عربيٌّ حنونٌ.
الأردن