من سقوط غرناطة إلى طوفان الأقصى

من سقوط غرناطة إلى طوفان الأقصى

 

 

د. طارق ليساوي
وعدت القراء الأفاضل في مقال “حلم الصين الأكبر” بتخصيص حيز مهم  للظاهرة الصينية و لطبيعة  الصراع الصيني / الامريكي وشرح ذهنية و سيكولوجية الأمة الصينية في حلقات  برنامج “إقتصاد × سياسة”، خاصة و أن كاتب هذه السطور  من الاكاديميين العرب القلائل الذين تخصصوا في الصين ونهضتها واقتصادها الذي اصبح يهيمن على العالم، ونبهوا إلى أن المستقبل صيني  لكن على خلاف راي سائد لدى كثير من العرب،  فإني أبشر أبناء أمتي و أجيالها القادمة و خاصة تلك التي تحمل جينات الإصلاح والصلاح  أن القيادة و الريادة ستكون من نصيب أمة الوسط حاملة الرسالة الخاتمة، الحبلى بالعلاجات الربانية التي تحتاجها البشرية للتحرر من هيمنة أجندة دجالية شيطانية تحرق البشر وتدمر الحجر ..

معركة فاصلة

و غزة و ما تصنعه من ملاحم خميرة لطبيعة و ماهية المستقبل الذي يتشكل بدماء و تضحيات  اصدق و اطهر و احق الناس .. فاللحظة الفاصلة التي نعيشها منذ 7 أكتوبر 2023 انتظرتها الامة الإسلامية طويلا، و من المؤكد أنها مخاض عسير سيعقبها ميلاد جديد ، فالأمة منذ لحظة سقوط غرناطة سنة 1492 و هي تنتظر  عودة أمجادها بعد ما عانت من الفرقة و الغثائية والطغيان وفقدان البوصلة وسيادة الوهن والتخلف والانحطاط الفكري والاخلاقي…. رغم بروز بعض الأعلام والرموز والحركات في فترات متقطعة خلال القرون الأخيرة لكن لم ترقى بعد لمستوى إخراج الأمة من حالة التيه و الخنوع للمستعمر ..لحظه سقوط “غرناطة” سنة 1492 ميلادية لحظة فارقة و فاصلة ..
فقد تزامن هذا السقوط التاريخي المدوي، مع بروز اسم العالم الجديد على صفحات التاريخ و خريطة الجيو-سياسيه العالمية، فاصبحنا أمام عالم جديد مقابل عالم قديم.. وأهدي للقارئ الكريم، فقرات من هذا التاريخ الماكر و الذي تناولته بتفصيل في كتابي الجديد “طوفان الأقصى من القدس إلى الأندلس”..

مغامرات كولومبوس

لقد أبحر “كولومبوس” الشهير -بحسب ما ورد بالدراسات التاريخية الغربية -بالتحديد- فجر الجمعة 3 غشت من مرفأ “بالوس” الإسباني / الاندلسي، بقوافله الثلاث الشهيرة.. عبر المحيط الأطلسي الذي سماه الجغرافيين المسلمين ببحر الظلمات، ووصل الى جزر الكرايبي يوم 12 اكتوبر 1492 فيما كان اكتشافه لأرض القارة الأمريكية الشمالية في رحلته الثانية عام 1498 ميلادية..

ويجب ان لا ننسى ان “كولومبوس” قدم اقتراحه لاكتشاف طرق تجاريه جديدة واسواق بديلة لملك البرتغال “يوحنا الثاني” سنة 1484 ميلاديه وقد رفض تمويل رحلته الاستكشافية، ثم توجه بطلبه مرة ثانية الى ملك اسبانيا وبعد سنوات من المحاولات الفاشلة وافقت الملكة ايزابيلا و الملك فيرناندو رسميا في 17 ابريل 1492 على تقديم الدعم لمقترحه..

حدثين عظيمين

مع التأكيد على أهدافه التجارية بمعنى اكتشاف طريق بحري أقصر وأقل تكلفة لاستغلال الأسواق الغنية في الصين واليابان.. ويجب أن نسجل هذا التاريخ 1492 ميلادية بأحرف بارزة، لأنه شاهد على حدثين عظيمين : أولهما، سقوط غرناطة المسلمة بأيدي مملكة اسبانيا.. وثانيهما، اكتشاف أمريكا ولم يكن هذا الاكتشاف ليتم في 17 ابريل 1492 كما سبق الذكر، لولا سقوط غرناطة يوم يناير 1492 ، وكانت هذه الأيام المئة كافية لكي يضع ملوك اسبانيا أيديهم على ثروات المسلمين بالأندلس ومصادره ثرواتهم العلمية والمادية وتوظيفها للسطو على اراضي اخرى وانشاء مستعمرات ومستوطنات جديدة…
بل إن هذا العالم الجديد الذي سيحمل فيما بعد اسم الولايات المتحدة الأمريكية سينهي ما تبقى من حضور إسلامي في مشارق الأرض ومغاربها وسيشهد العالم الإسلامي “من طنجة إلى جاكارتا “سقوط كل العواصم الإسلامية وليس الاندلس فحسب، بأيدي شركات و وجهات معلومة واكثرها مجهولة…

الطامة الكبرى

وحتى نكون منصفين فان هذه الطامة الكبرى لم تسقط العالم الإسلامي، فحسب بل أسقطت الإنسانية برمتها ، فإسرائيل التي تبيد أهل غزة، ما هي إلا نسخة مكررة و مصغرة  للولايات المتحدة الأميركية، التي بدأت أولى خطواتها بأقسى أنواع الإرهاب وأبادت الملايين من السكان الأصليين للبلاد، وارتكبت بحقهم أبشع المجازر وأذاقتهم صنوف التعذيب والمعاناة، ثم بعد ذلك كله كتموا المذابح وأخفوا الحقيقة التاريخية عن الجماهير، لتبقى صورة الهنود الحمر هي ذاك الرجل البدائي الذي لا يفقه شيئا من الحياة..
فقد سمح المستعمر القادم من وراء البحار لنفسه باستعمار قارة بأكملها، باستخدام و توظيف خطاب تنويري و ديني، فقد إعتمد على ذات  الحجج التي استعملها  المستعمر الصهيوني لإحتلال فلسطين، و من ذلك  تخلف سكان المكان و الرغبة بتطويرهم ، أو عدم وجود بشرٍ أصلًا ، كما إستخدم شعارات دينية ومعتقدات مقدسة لتبرير القتل و الإبادة  فالنهب عند البيض عقيدة، وقتل الآخرين عبادة..

القتل عبادة

و قد تناول  د.منير العكش في كتابه القيم “حق التضحية بالأخر أمريكا و الإبادات الجماعية ” هذا الموضوع ، و الكتاب بمثابة  شهادة تاريخية جمع المؤلف تفاصيلها خلال فترة طويلة من الزمن. فمنذ وصوله إلى واشنطن استثاره فضول لا نهائي إلى معرفة ما جرى للشعوب الأميركية الأصلية والذين يطلق عليهم زورا و بهتانا، اسم “الهنود الحمر”، وكيف تمكن مستعمرو أميركا من إبادة سكان قارة كاملة، و هؤلاء كان عددهم يزيد على 112 مليون إنسان إلا أنه لم يبق منهم في إحصاء أول القرن العشرين سوى ربع مليون. وقد واجه المؤلف في رحلته الإستقصائية سيلاً من الكتب والمعلومات التي أغرق بها التاريخ، وهي بمعظمها تؤكد على “فراغ الأرض” و”وحشية هذه الشراذم الهندية” ومسؤوليتها عما جرى إلا أنه وفي خلال بحثه عن مصادر الأسطورة “أنات” الكنعانية عثر في مكتبة الكونغرس، على كتاب مورتون “كنعان الجديدة الإنكليزية” وقد شجعته تجربة مورتون مع الهنود على سلوك طريقه في جمع الشهادات والتي استطاع استخلاصها من أصدقاء “الحركة الهندية American Indian Movement” عرف من خلالهم أن للولايات المتحدة فضل اختراع ألطف نظام تطهير عرقي على وجه الأرض.

أرض كنعان

و تعتبر قصة الإنجليز الذين أسسوا أول مستعمرة فيما صار يُعرف اليوم في الولايات المتحدة بإنجلترا الجديدة، الأصل الأسطوري لكل التاريخ الأميركي.. وما يزال كل بيت أميركي يحتفل سنويا في عيد الشكر بتلك النهاية السعيدة التي ختمت قصة نجاتهم من ظلم فرعون البريطاني و(خروجهم) من أرضه، و(تيههم) في البحر، و(عهدهم) الذي أبرموه على ظهر سفينتهم مع يهوده، ووصولهم في النهاية إلى (أرض كنعان). كل تصورات العبرانيين القدامى ومفاهيمهم عن السماء والأرض والحياة والتاريخ زرعها هؤلاء المستعمرون الإنجليز في أميركا التي أطلقوا عليها اسم “أرض الميعاد” و”صهيون” و”إسرائيل الله الجديدة” وغير ذلك من التسميات التي أطلقها العبرانيون القدامى على أرض فلسطين.

تقمص تاريخي

وقد استمد هؤلاء الإنجليز كل أخلاق إبادة الهنود (وغير الهنود أيضا) من هذا التقمص التاريخي لاجتياح العبرانيين لأرض كنعان. كانوا يقتلون الهنود وهم على قناعة بأنهم عبرانيون فضّلهم الله على العالمين وأعطاهم تفويضا بقتل الكنعانيين، وكانت تلك الإبادة للهنود، وهي الإبادة الأكبر والأطول في التاريخ الإنساني، الخطوة الأولى على الطريق إلى هيروشيما وفيتنام و العراق و أفغانستان و غزة..
لذلك، فليس من المستغرب تماما أن تقوم حكومة الولايات المتحدة الأميركية بدعم إسرائيل التي ترتكب المذابح في حق الشعب الفلسطيني وتسرق أرضه، فالمبررات التي يعتمد عليها الكيان الصهيوني هي المبررات نفسها التي استخدمها المهاجرون الإنجليز من قبل في سرقة أرض السكان الأصليين لأميركا واستباحتهم وإبادتهم..

قيمة القيم

و عودة إلى سنة 1492 ميلادية ،  فإن  الغاية و الدوافع التي تحكمت في سيكولوجية الأنظمة الأوروبية ، وتحديدا اسبانيا والبرتغال لم تكن دوافع اقتصادية و تجارية فحسب، ولكنها كانت تحمل بذور دينيه وعرقية وعنصرية، متعصبة للمسيحية، و للعرق الأبيض، و مسكونه بهواجس “علمية” ملغومة صارت تهدد اليوم الجنس البشري، تحت مسميات الذكاء الاصطناعي والهندسة الجينية والوراثية، على نقيض الحضارة الإسلامية التي أسست وقعدت وطورت علوما تضع في صلب اهتمامها تكريم الانسان،  وحفظ الطبيعة واشاعة قيم التعاون والتعايش والكرامة الإنسانية، التي سماها عالمنا الجليل المهدي المنجرة رحمه الله ب“قيمة القيم” مصداقا لقوله تعالى : ﴿  وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَىٰ كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا﴾

( الإسراء-70)..

حضارة نارية

واليوم انتهت حضارة “العم سام” بإذلال العالمين شرقا وغربا، وصارت قوافل المهجرين تجتاح شاشات العالم، ومحور إهتمام كل الخطب السياسية والقرارات الاستراتيجية، وعادت كل حضارة تنقب في جذورها و تبحث عن إمكانيه استعادت ذاتها الضائعة والمسلوبة وإخراجها من ربقة وقيود حضارة نارية تدميرية ذات نزعة دجالية -شيطانية..
فأي نموذج تنموي يفضي إلى تدمير الإنسان أو فطرته أو يقود إلى تدمير الأرض وتهديد غلافها واستقرارها الأني والمستقبلي ، حتى و إن أثمر على المدى القصير تحسين مؤشرات العيش، فإنه يعد نموذجا مضللا و مسكنا للألآم لا غير، نموذج ترقيعي محدود الأفق ومضر بمستقبل الإنسان وسلامته و استقراره.. لذلك، فإن الباحثين اليوم عن نموذج تنموي مغاير للنماذج السائدة شرقا وغربا، يجب أن يضعوا في مقدمة اهتماماتهم البعد الحضاري و العمراني – الإستخلافي، ليكون بديلا عن ما أنتجته و توقفت عنده الثورات البشرية السابقة و خاصة ” الثورة الصناعية” ..
فالثورة الصناعية تم النظر إليها حينئذ و إلى يومنا هذا ،كفتح مبين و اكتشاف عظيم لم تحلم البشرية يوما بدخوله، عصر سالت بحديثه الأقلام و أذهلت العقول وتسمرت الأقدام.. ورغم الأثار السلبية لهذه الثورة التي ألحقت بالإنسان و البيئة أضرار بالغة الخطورة، بل و أضرت بالبناء و النسيج المجتمعي، وفككت إستقراره من خلال تسليع الإنسان و اعتباره أداة من أدوات الإنتاج لا أقل ولا أكثر، ووسيلة لتصريف المنتجات و مضاعفتها ، ومع ذلك هناك عملية تجميل و تضليل متواصلة و مستمرة للثورة الصناعية و ما تبعها من ثورات تكنولوجية و رقمية و إصطناعية  ..
أن الأوان أن نطرح تساؤلات فكرية و ثقافية حول أسس هذه الثورة الصناعية وتوابعها من ثورات ، و التي انتهت على أنسنه الألة و مكننة الإنسان، فأصبح الإنسان ينافس الألة للإحتفاظ بمكانه كقوة إنتاج و يخشى أن تطرده الألة من “جنة الأرض “..فالأرض التي جعلها الله تعالى مكانا لإستخلاف الإنسان و أودع فيها معاشه تصديقا لقوله تعالى في محكم كتابه : ﴿ وَلَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَجَعَلْنَا لَكُمْ فِيهَا مَعَايِشَ ۗ قَلِيلًا مَّا تَشْكُرُونَ﴾( الأعراف- 10)..فهذه الأرض صارت اليوم مهددة باستعمار الألة و تحييد الإنسان جانبا، و التفضل عليه بالفتات  و لما لا العمل على تحييد الفائض البشري و إنقاصه عبر الأوبئة و الحروب و تغيير الفطرة و نشر الشذوذ …

العجل الذهبي

فهل تمكنت بالفعل حضارة الديناميت والتدمير والوحشية المتحررة من كل القيم، من وضع نقطة نهاية التاريخ و تسييد النموذج الاستهلاكي البهيمي؟ أم أن هناك ثقافات و حضارات وأمم لا زالت متمسكة وتقاتل بشراسة حفاظا على هويتها وقيمها وأحلامها الحضارية في ظل إعصار جارف يحمل معه كل غث ؟ هل باعت كل أمم الدنيا دينها لشيطان العصر، وصارت قبلة الجميع بين الفيل والحمار؟
وعليه، فعلينا توسيع مجال رؤيتنا و تقييمنا لطبيعة الصراع ، بل وإعادة تعريفنا لكثير من المفاهيم، ومن ذلك مفهوم الصهيونية و التصهين ، فليس بالضرورة كل يهودي صهيوني، فالصهيونية وفق منطق العصر وتطور الأحداث، هي التبني المطلق لعقيدة العجل الذهبي وتغليب منطق البيترودولار والمادة على منطق القيم، وتسييد المؤشرات الكمية المادية على حساب المقدسات و الثوابت و الأصول ..وحتى لا أطيل عليكم ستجدون تفصيل هذه المواضيع في ثلاثية طوفان الأقصى بأجزائه الثلاثة و في حلقات برنامجكم “إقتصاد × سياسة ” .. والله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون ..
كاتب وأستاذ جامعي من المغرب