التجاني صلاح عبد الله: ذو الرمة ومنزلتي ميِّ

التجاني صلاح عبد الله
سأذهب اليوم بعيدا الى الصحاري والاطلال والقفار، إلى ذي الرمة “غيلان بن عقبة ” تحديدا، هربا من الواقع الراهن الذي تكثر فيه اخبار الحروب والدماء وكآبة المنظر، وطلبا للتغيير والترويح والتجديد، لأسمع شيئا من قصائد ذي الرمة البديعة، وهو يصف “مي بنت عاصم”، التي تشبب بها على مدى اكثر من عشرين عاما، وجاء شعره فيها من كل وجه ومكان.
قالت أمة لأم مي: كنا نازلين باسافل الدهناء ورهط ذي الرمة مجاورون لنا، فجلست “مية” تغسل ثيابا لها ولأمها في بيت رث فيه خروق وهي فتاة احسن من رأيته، فلما فرغت لبست ثيابها وجلست عند امها، واقبل ذو الرمة ينشد ضالة فدخل وجلس ساعة ثم خرج، فقالت “مية”: إني لأرى ان هذا العذري قد رآني منكشفة واطلع علي من حيث لا اشعر، فان بني عذرة أخبث قوم في الأرض، فاذهبي فقصي أثره، فقالت: قصصت أثره فوجدته قد تردد اكثر من ثلاثين مرة، كل ذلك يدنو فيطلع عليها ثم يرجع على عقبه ثم يعود، فأخبرتها بذلك، ثم لم ينشب ان جاءنا شعره فيها من كل وجه ومكان.
وذو الرمة” غيلان بن عقبة” الذي عاش بين أواسط عهد الخليفة “عبد الملك بن مروان” وأواخر عهد الخليفة “هشام بن عبد الملك”، تميز بالجزالة وقوة اللفظ، ومتانة الاشعار وجودة السبك، حتى قال عنه” ابن جرير” أن ذا الرمة بعد قصيدته ما بال عينك منها الماء ينسكب، لو خرس بعهدها لكان اشعر الناس، فقد كان ماهرا متقنا في الوصف، جمع ثلث لغة العرب في شعره!
ووصف “مي بنت عاصم المنقري” وصفا بديعا في أكثر شعره، أظن أن ما نالته “ميا” لم تنله امرأة قبلها، أو وصف به شاعر من شعراء العرب مثلما وصف به ذو الرمة، فقد جاء شعره فيها بموهبته الفذة وقدرته المتميزة، واختلف رواة الشعر في شخصية “مي” التي شغل بها ذو الرمة المجالس، فمنهم من ذهب إلى أنها هي “الخرقاء” نفسها التي قال ذو الرمة فيها:
تصابيت واستعبرت حتى تناولت
لحي القوم أطراف الدموع الذوارف
وقوفاً على مطموسة قطعت بها
نوى الصيف أقران الجميع الأوالف
قلائص لا تنفك تدمى أنوفها
على طلل من عهد خرقاء شاعف
كما كنت تلقى قبل في كل منزل
عهدت به ميا فتي وشارف
ولكن في الوقت ذاته فان آخرين يعتقدون أن “الخرقاء” هي شخصية حقيقية، وهي امرأة من بني البكاء بن عامر بن صعصعة، وقيل في روايات أنها كانت كحالة داوت عينه فشبب به، وأنها كانت تفخر فخرا كبيرا بان ذا الرمة جعلها منسكاً من مناسك الحج حين يقول:
تمام الحج أن تقف المطايا
على خرقاء واضعة اللثام
ومن رواة الشعر من ذهب إلي أن “الخرقاء” هي شخصية خيالية، أو رمز سمى به ذو الرمة “ميا”، وترك ذكرها في شعره لكي يغيظها ويكيد لها !..مهما يكن الأمر، سواء كانت “الخرقاء” هي “مي” نفسها كما يميل إلي ذلك رواة الشعر، أو كانت هي “الخرقاء” البكائية، فان ذلك لا ينقص شيئا من الإبداع الوافر الذي تركه ذو الرمة في الشعر العربي، والذي يصف فيه ميا المنقارية أو الخرقاء البكائية، والذي يتميز بجزالة اللفظ وقوة الوصف وعمق الفيلسوف، ومن شعره البديع الذي جمع بين العاطفة والوصف :
أَمَنزِلَتَي مِيِّ سَلامٌ عَلَيكُما
هَلِ الأزمُنُ اللائي مَضَينَ رَواجِعُ
وَهَل يَرجِعُ التَسليمَ أَو يَكشِف العَمى
ثَلاثُ الأثافي وَالرُسومُ البَلاقِعُ
تَوَهَّمتُها يَوماً فَقُلتُ لِصاحِبي
وَلَيسَ بِها إِلّا الظِباءُ الخَواضِعُ
وَمَوشِيَّةٌ سَحمُ الصَياصي كَأَنَّها
مُجَلَّلَةٌ حوٌ عَلَيها البَراقِعُ
حَرونيَّةُ الأنسابِ أَو أَعَوجيَّةٌ
عَلَيها مِنَ القَهزِ المُلاءُ النَواصِعُ
تَجَوَّبنَ مِنها عَن خُدودٍ وَشُمِّرَت
أَسافِلُها مِن حَيثُ كانَ المَذارِعُ
قَفِ العيسَ نَنظُر نَظرَةً في ديارِها
فَهَل ذاكَ مِن داءِ الصَبابَةِ نافِعُ
فَقالَ أَما تَغشى لِمَيَّةَ مَنزِلاً
مِنَ الأرضِ إِلّا قُلتَ هَل أَنتِ رابِعُ
وَقَلَّ إِلى أَطلالِ مَيٍّ تَحيَّةٌ
تُحَيّى بِها أَو أَن تُرِشَّ المَدامِعُ
أَلا أَيُّها القَلبُ الَّذي بَرَّحَت بِهِ
مَنازِلُ مَيٍّ وَالعِرانُ الشَواسِعُ
أَفي كُلٍّ أَطلالٍ لَها مِنكَ حَنَّةٌ
كَما حَن مَقرونُ الوَظيفَينِ نازِعُ
وَلا بُرءَ مِن مَيٍّ وَقَد حيلَ دونَها
فَما أَنتَ فيما بَينَ هاتَينِ صانِعٌ
أَمُستَوجِبٌ أَجرَ الصَبورِ فَكاظِمٌ
عَلى الوَجدِ أَم مُبدي الضَميرِ فَجازِعُ