الخوف من الهندسة القسرية للحياة والموت.. تأمل في نص للشاعرة اللبنانية هدى سليمان

الخوف من الهندسة القسرية للحياة والموت.. تأمل في نص للشاعرة اللبنانية هدى سليمان

 

 

باريس ـ حميد عقبي:
في هذا النص النثري، يمكننا أن نعنونه (هي الوحدةُ الّتي خِفْتَها إذًا؟) للشاعرة اللبنانية هدى سليمان، نلج دهاليز وعتمة وحدة أنثى كمن يدخل متاهات لا محدودة، رغم أنها مرسومة بخطوط هندسية صارمة: مربع، مستطيل، تابوت. غير أن النص لم تُخضعه الزوايا أو تُؤطره بحدود، كونه نجح في تدويرها، يفرّ من كل الأشكال إلى الدائرة، إلى ما يشبه الخلاص في الدوران حول الذات. بين سؤال صديقة في سكن جامعي عن موتٍ وحيد، وبين ذكريات رياضيات لم تُحب، تنبثق القصيدة كحوار داخلي مشحون ونشط، تتشابك فيه العديد من الأصوات والأسئلة. لا نقرأ اعترافات خجولة أو شجاعة  بقدر ما نسمع تمتمة خفية من الداخل تهزّ أبواب القبر، وتحاور كل شيء بما في ذلك الخوف نفسه. هذا النوع من الكتابة يقاوم الأشكال الجامدة، ويعيد صياغة الحزن كمساحة دائرية تبدأ من الذات وتنتهي بها في ظل فوضى وعبث حروب لا تنتهي.
النص:
ـ هي الوحدةُ الّتي خِفْتَها إذًا؟
مُذ سألَتْكَ صديقتُك في السّكنِ الجامعيِّ: “ألا تخافُ الموتَ وحيدًا؟”
إنّه المربّعُ الّذي خشيته: صورةٌ.. غرفةٌ.. شاشةٌ.. تابوتٌ… قبرٌ؟
ـ القبرُ مستطيلٌ.. التّابوتُ كذلك!
ـ “مستطيلٌ كان ينبغي أن يكون مربَّعًا”!
ـ لهذا إذًا أَحْبَبْتَ الدّوائرَ دومًا؟
ـ لهذا أحبّتني الدوائر…
كل دائرة كانت تبدأ بي وتنتهي بي…
كم أملك بعد من خيبات لأرسم ثالوثًا؟ لأخرج من هذه الأرقام المعلّقة بي… أنا الذي ما أحببت يومًا أستاذَ الرياضيات لأحبّ تعاليمه غير “المدوّرة”!
ء أنت الذي لم تستسغ الشعراء أيضًا!
ـ يقولون ما لا يفعلون.
ـ وأنتَ؟
ـ (…)
ـ هي الوحدة إذًا! كم دوّرت الزوايا خوفًا منَ الخوفِ نفسه: غرفة.. صورة.. و..
ـــــــــــــــــــ
الشعرية العربية اليوم لم تعد رهينة التصنيف التقليدي بين “نسوية” و”ذكورية”، بين رومانسي ووجودي، بل تجاوزت هذه الثنائيات لصالح صوت إنساني مفجوع، مجبر على الانغماس في صراع يومي مع التفكك والضياع. في نص هدى سليمان، نسمع هذا الصوت بوضوح، حيث لا نجد “امرأة” تكتب من موقع الجندر، نشعر أننا مع كائن هشّ، يتلمّس دروبه في عالم تهاوت هندساته وتفاصيله، وانفرط منطق وجوده. المربّعات والمستطيلات والدائرة ليست استعارات طارئة، بل يمكن تأويلها كنظام رمزي معقّد يُحيلنا إلى وعيٍ مأزوم بالزمن والمكان واللغة.
هذا النص لا يرثي الذات بقدر ما يُشرّحها، يتأمل هشاشتها في مرآة الوطن المرهق والموت المتربّص. الوطن هنا لا يُستحضر بوصفه كيانًا سياسيًا أو جغرافيًا،هنا ـ  يبدو أقرب إلى صورة شبحية ـ تتقاطع فيها الغرفة والصورة والشاشة والتابوت. نُصدم بكابوسية المشهد وهو توصيف حاد لواقع يتآكل فيه الإنسان من الداخل، ليس بفعل العدو الخارجي وحده، بل نتيجة الانهيار اليومي، العبث المرعب الذي يُلقي بظلاله على كل شيء.
لسنا أمام نص يُعلن كراهية كاتبته للحياة أو للوطن، بل كأنّه صرخة من داخلهما، من عمق الإحساس بالإرهاق والخذلان. حين تقول الأنا الشعرية: “كم أملك بعد من خيبات لأرسم ثالوثًا؟”، فهي لا تتهكّم بل تُفكّك معنى التكرار، وتفكّر في النجاة عبر إعادة تشكيل الرموز، حتى لو كانت بالأرقام. في عالمٍ تتوه فيه القيم والمعاني الكبرى، تصبح الرياضيات، والشكل الهندسي، والشعر أدوات للبقاء ولولادات جديدة، رغم أن الذات لم تحب أستاذ الرياضيات، ولا تثق في الشعراء الذين “يقولون ما لا يفعلون”.
النص يمكننا أن نضعه ضمن النصوص التي تعيد طرح سؤال الذات في علاقتها بالموت، ليس بحثًا عن مصير نهائي، بل رغبة في الوصول إلى حالة دائمة من الانفصال. “الموت وحيدًا” لا يبدو أنه يشير إلى موتٍ بيولوجي فحسب، بل إلى انقطاع عن المعنى، عن الحضور، عن التفاعل مع العالم. والفرار إلى “الدائرة” كرفض للزوايا الضيّقة والأشكال الشبيهة بالقبر، هو أيضًا استعادة لديناميكية الذات والروح، ومحاولة للنهوض، وللقدرة على الدوران حول النفس أملًا في النجاة. الشاعرة لا تهرب من الموت، بل تجرّده من جبروته الهندسي.
في هذا النص، لا تتحدث الشاعرة عن قضية سياسية أو اجتماعية عبر رفع الشعارات، بل نلمس أن قوتها تنبع من معايشة قضايا الوطن وألمه كتابةً. ابتعدت اللغة عن الترف، لتجعلنا نشعر أن الكتابة مقاومة. مقاومة الخوف، مقاومة الشكل، مقاومة التبعثر. والمفارقة أن هذه المقاومة لا تكون بالصراخ، بل بالأكثر قوة: بالهمس، بالسؤال، بلغة تصوّر القلق والتشظي الداخلي. حين تسكت الذات فجأة: “وأنت؟ (…)”، لا تفعل ذلك عن عجز، بل لأنها وصلت إلى منطقة لا تُقال، منطقة لم تعد فيها الكلمات يقينية.
في النهاية، يتّضح أن التعبير عن الوطن، عن الذات، عن الموت، لا يحتاج إلى أعلام أو بيانات. قد يكون في صورة، في شاشة، في زاوية مدوّرة أو مستطيلة. هذا لا ينفي الحب، لكنه يؤكد عمقه؛ فحتى الشكّ أحيانًا دليل ولاء موجع.
ختامًا نقول أن  الوحدة والموت والإندثار لم تعد كموضوعات شخصية فحسب، بل مرتبطة بانهيار أوطاننا، بانسداد الأفق، بعدم عدالة العالم المحيط بنا وضعف شعوره بموتنا وهلاكنا. هذه المقاربة في مثل هذه النصوص تضعها في قلب التحولات الثقافية والاجتماعية والسياسية، دون الحاجة إلى شعارات، وهو ما يُعد من علامات الوعي، الخروج من المواضيع السطحية  ومن سجن النوع والجندر إلى فضاء الكتابة الإنسانية المفتوحة.