زيد عيسى العتوم: النظارة السوداء!

زيد عيسى العتوم: النظارة السوداء!

زيد عيسى العتوم

كلما صعدتُ الى هذا القطار الذي ينقلني الى المدينة التي تعيش فيها أمي ومعها قطعة من قلبي انتابني نفس الشعور وتملّكني نفس الإحساس, أشعر بمجرد رفع قدمي عند الصعود كما لو كنت سأخترق غلاف الأرض نحو السماء, وأحسّ بعدها برغبة جامحة للعودة الى أيام الطفولة التي تحوّلت الى فُتاتٍ منثورٍ بين منعطفات الحياة, ثم أسأل نفسي بصمتٍ عند الوصول الى مقعدي نفس السؤال ولا أشعر بالحرج عندما لا تجيبني كعادتها, هل عربات العمر كعربات القطار عندما أخبرنا دوستويفسكي بظرورة النزول في أول محطة إن ركبنا القطار الخطأ؟, في ذلك القطار كلما زادت المسافة زادت التكلفة للعودة, وفي العمر كلما زاد الزمن تذبل الأمنيات ولا عودة.
وضعتُ حقيبتي على المقعد الفارغ بالقرب مني, وتنفست الصعداء لعدم تكرار ذلك اليوم الذي جاورني فيه رجل سمين الجسد وهزيل اللطف, فقد اختار كتفي مخدة له وأجبر أذني على الإنصات لشخيره وأضغاث أحلامه كمذياعٍ لا يتوقف, ورغم اهتزاز كتفي بقصدٍ مني واهتزاز عجلات القطار صدفةً والأملُ ينشد صحوته الموعودة, كان التلذذ يرافق سباته كطفلٍ توقف عن عدّ الخراف استسلاماً لأصابع أمه التي لا تنفك عن هزّ سريره المريح.
نظرتُ الى المقعد القريب مني والمقابل لي تماماً, كانت تجلس فتاة جميلة ملابسها أنيقة في عقدها الثالث, يدها اليمنى مغطاة بقفّاز رقيق بينما الأخرى مكشوفة تحمل كأساً ورقياً من القهوة, تردي نظارة سوداء لامعة بنفس لون شعرها الطويل والمسترسل حول وجهها, فتحوّل الوجه به الى تحفةٍ من الروعة والإتقان, كان وجهها محايداً وغامضاً ينطق همساً بحروف العزلة والاغتراب العذب, اطلالتها ذات هيبة وقامتها شامخة, ولو كنت رساماً لصنعت منها أيقونةً قوامها خلطة الضوء والظل, قميصها أبيض بعد أن سرق أو استنسخ لون قلبها حسب ظنّي, حقيبتها الصغيرة الحمراء بالكاد تفلح في إسناد يديها فوق رجليها المدعّمتين بحذاءها المتسلق نحو ركبتيها, وبجانب تلك الفتاة فتاة أخرى نائمة تلتصق بها لا بدّ وأنها شقيقتها بسبب التشابه الهائل بينهما, لا تأبه غفوتها لضجيج المارّة أو حتى التصادم العابر بأمتعتهم المندفعة.
أُغلقت الأبوابُ وبدأتُ رحلتي كمن يمتطي التأملَ وهو يبحر في رحلةٍ شعوريةٍ مميزة, تمنيتُ سقوط نظارتها لإستكمال لوحتي التي سأضعها في متحفي الفاخر الذي يتسع للوحة واحدة فقط, حاولتُ إكراه عينيّ لإجبارهما على رؤية النافذة قليلاً خوفاً من غضب الفتاة أمام فضولي المنفلت مني, لكنها كانت هي تنظر اليّ أيضاً وتحدّق بقَسَماتي بصمتٍ ناعم, لمحتُ ابتسامتها فتكسّرت قيودي وتدحرجت ابتسامتي وانهارت قوانيني من قممٍ لم اصعدها من قبل, أغمضتُ عينيّ ثم فتحتهما بسرعةٍ لأتيقن من حقيقةٍ مفادها إنني أنا وإنني وحدي المقابل لها وإنني لا أملك غير الاعتراف بتهمة المشاعر العميقة مهما عاقبتني الأقدار, ابتسمت مرةً أخرى فهززتُ لها رأسي وبدأت بعدها ومضات الراحة وبوادر الاطمئنان تعبر برعونةٍ في عروقي دفعة واحدة, أقسمتُ أن لا أشيح بوجهي عنها فبادلتني القًسم ونسينا كلَّ ما يُسمى غيرنا, لا أريد التحدّث معها فالحروف والكلمات قد تخدش عطرَ اللحظة وتفسد قدسية الحالة, ثم إننا لسنا في عجلة من أمرنا ونحن نبحر معاً في نفق التعلّق الذي لا نهاية له, أمسكتُ هاتفي فتلعثمت أصابعي مرات ومرات في إزاحة قيوده التافهة, اخترتُ لحناً سيقول لها ما عجزتُ عن قوله, وأخفضتُ صوتَه حتى لا تتعدى أسرار رومنسيته حدود جزيرتنا الصغيرة, قَتَلتني حينها عندما حقنت قلبي بجرعةٍ مضاعفةٍ من ابتسامتها المخملية, ثم بدأت مواكبتي بالعزفِ المتناغمِ من أصابع يدها ذات القفّاز على رقعة حقيبتها, لقد أعجبها اختياري فكلّ الدلائل تشير الى ذلك, أنا لا أتوهم ولا أتخيل ولا أحلم, يكفينا معجزة الصدفة ولغة الجسد وكيمياء الوجه, سأخبرها وستخبرني عند وصولنا ولن أفقدها ولن تفقدني, وسنكتب أنا وهي روايتنا معاً بقلمٍ واحد, أسرع أيها القطار الحاني أو اتركنا نقفز بين غيمات العشق المتشابهة, أو اختر ما شئت فلم أعد أملك قراري.
وصل قطارنا الى محطته التي ستبدأ فيها رحلتي ورحلتها الأبدية, سأسألها عن اسمها قبل كلّ شي أو ربما ستسبقني بسؤالها لي, ثم بدأت أنفاسي تتصاعد عندما رفعت يدها صوب نظارتها لإزاحة الستار عن عنوان قصتي, أزالت النظارة برفقٍ وبطءٍ مبالغٍ فيه, بقيت عيونها مغمضة وقلبي يتفتّح انتظاراً, أفاقت شقيقتها من نومها ثم احتضنت ذراعها بقوة وساعدتها على الوقوف, لم تفتح عيونها.
شقيقتها: لقد وصلنا أخيراً, امسكي بيدي جيداً, يجب أن نحذر عند النزول, سأحمل حقيبتي وحقيبتك, سننتظر قليلاً حتى لا تتدعثر أقدامنا, لا تقلقي ونحن معاً فأنا عيونك وأنتِ قلبي…أحبك كثيراً!