حسن قديم: غسان كنفاني.. لواء فكري مسلح أرعب إسرائيل

شبكة تواصل الإخبارية تقدم لكم خبر
حسن قديم
أمام استمرار الهجمة الإسرائيلية الهمجية على الشعب الفلسطيني الأعزل وانتشار رائحة الموت في كل مكان وحرب الإبادة المستمرة، وتشبث الفلسطينيين بخيار المقاومة لدحر المحتل وتحرير كامل التراب وطنهم من البحر إلى النهر، نستحضر في هذه المرحلة الحساسة واحد من أكبر رجالات فلسطين والعرب، التي خلدها التاريخ لالتزامها بقضية فلسطين وصاحب مقولة “خلقت أكتاف الرجال لحمل البنادق ، فإما عظماء فوق الأرض أو عظاما في جوفها”، وحقا كان عظيما فوق الأرض وشهيدا تحت ترابها.. إنه الروائي والأديب والمقاوم الملتزم.. الشهيد غسان كنفاني.
شكل الروائي والأديب الفلسطيني غسان كنفاني بعبعا قض مضجع الإسرائيليين لسنوات، ليدبر الاحتلال جريمة نكراء لاغتياله، مما يؤكد أن قوة الكلمة أكبر من أي أسلحة أو رصاص أو عتاد عسكري، وليتحول إلى أيقونة عربية وفلسطينية تجاوزت حدود الوطن الأم لتصير رمزا للمناضل الملتزم العاشق لوطنه.
علقت رئيسة وزراء إسرائيل وقتئذ، غولدا مائير، على اغتيال كنفاني: “اليوم تخلصنا من لواء فكري مسلح. فغسان بقلمه كان يشكل خطرا على إسرائيل أكثر مما يشكله ألف فدائي مسلح”.. تصريح يؤكد قوة الكلمة في إزعاج هذا الكيان الهمجي.
كان لغسان كنفاني دور كبير في تعرفنا على القضية الفلسطينية وإيماننا بها، من خلال كتاباته وصدق بوحه وارتباطه بقضيته الأم وحلمه بالعودة ولم الشتات، جعلنا نلتصق بفلسطين حبا وعاطفة، وصارت أما لنا نتألم لألمها ونفرح لفرحها.
تعرفت على غسان كنفاني أول مرة في المرحلة الثانوية، بعد أن وقعت بين يدي روايته عائد إلى حيفا، كانت بمثابة صلة الوصل التي جمعتني بهذا الأديب الاستثنائي والشهيد الخالد. ليصبح إلى جانب عبد الرحمان منيف أقرب الشخصيات إلى قلبي، لا يزاحمهم في ذلك إلا الفنان الكبير جورج وسوف.
ومثله مثل غالبية الفلسطينيين عاش كنفاني طفولة قاسية وذاق مرارة النزوح الفلسطينيين بعد نكبة 1948، متنقلا بين لبنان، وسوريا والكويت تاركا خلفه وطنه الأم، وحاملا بين أضلعه أمل العودة ولم الشتات.
“عائد إلى حيفا” تصور حياة الفلسطينيين المهجرين الذين غادروا وطنهم قسرا، وتركوا خلفهم ذكرياتهم وطفولتهم، بل تركوا أيضا أهلهم وأطفالهم، فصفية وسعيد، بطلا الرواية تركا ابنهما خلدون في المنزل، ومن شدة القصف الهمجي لم تستطع صفية العودة إلى المنزل، وغادرت أرض فلسطين رفقة زوجها سعيد تاركان ابنهما.
ظلت صفية تعيش الكوابيس كأي أم مفجوعة بفقدان ابنها وظل زوجها سعيد يحاول العودة بحثا عن خلدون، قصة قصيرة ترسم معاناة شعب بأكلمه.. شعب ذاق ويلات القتل والتهجير والشتات، ليتمكنا من العودة و تكون الصدمة كبيرة فخلدون تحول اسمه إلى دوف والتحق بجيش الاحتلال، بعد أن تبنته أسرة يهودية، وبقية القصة معروفة.
كانت هذه الرواية التي جعلتني أتعرف على روائي عظيم ومقاوم كبير، ليصبح إسم غسان محببا عندي، بل عند كثيرين، وحلم أن يحمل أبناؤنا هذا الاسم.. فيكفينا شرفا أن يكون بيننا وفي عائلتنا غسان، ويكون لزاما علينا أن ننقل للأجيال القادمة سيرة هذا البطل الخالد.
اشتغل كنفاني صحافيا وخاص تجارب كثيرة من صحيفة الحرية الأسبوعية إلى صحيفة المحرر والأنوار والحوادث، ثم مؤسسا لصحيفة الهدف، والتي شغل منصب رئيس تحريرها إلى حين استشهاده.
تزامن ميلاد المناضل الفلسطيني والعربي غسان كنفاني مع انطلاق شرارة ثورة 1936 فى مدينة يافا ضد قوات الانتداب البريطاني، ليستهشد في سنة 1972 في انفجار بيروت، بعمر 36 سنة فقط، تاركا خلفه كل هذا الإرث الأدبي، بعد هذا العمر القصير، مما يؤكد سيرة رجل تحول إلى رمز عربي وفلسطيني وقدوة للأجيال الصاعدة والقادمة.. وذاكرة فلسطين الحية.
جمع كنفاني بين المقاومة والرواية والسياسة والثقافة والشعر، وكان شاهدا على مرحلة من النضال الفلسطيني ومؤرخا لها وملهما وقائدا شجاعا.. اجتمع فيه ما تفرق في غيره.. كان حقا مفردا بصيغة الجمع.
ترك كنفاني ما يناهز 18 عملا أدبيا من بينهما “أرض البرتقال الحزين” و “رجال في الشمس”، و”ما تبقى لكم”، وغيرها من الأعمال التي تلقي الضوء على جراحات الشعب الفلسطيني، وتنقل بداية جريمة الاستطيان في حق فلسطين من جيل إلى جيل بقلم رجل آمن بقضيته والتزم بها واسترخص حياته في سبيلها.
كان لغسان كنفاني الفضل الكبير في اكتشاف رفيق دربه في النضال ناجي العلي أول مرة، بمخيم عين الحلوة بلبنان خلال فعاليات مهرجان لدعم فلسطين، بعد أن عرض ناجي العلي بعض رسوماته ضمن معرض لرسومات الأطفال، الذي كان مشرفا عليه بصفته معلما للرسم للأطفال، فأعجب كنفاني برسومات ناجي لما تحمله من رسائل قوية عن النكبة والشتات وحلم العودة.
نشر غسان كنفاني لناجي العلي أول مرة ثلاث رسمات، في مجلة “الحرية” التي كان مديرا لها، لتنطلق رحلة الصداقة الطويلة بين الرفيقين الشهيدين، إلى أن لقيا المصير المشترك معا.. الاغتيال.
لقد جعلنا غسان كنفاني نؤمن أن خطر الصهيونية يهدد وجودنا جميعا من المحيط إلى الخليج، وأن خيار دعم المقاومة ليس ترفا، بل دعما للخط الأول للدفاع عن الأمة العربية في مواجهة التوسع الإسرائيلي المدعوم من الولايات الأمريكية والغرب. وكما عرفنا كنفاني بالتزامه بالقضية الفلسطينية من خلال كتاباته ونشاطه السياسي والثقافي فواجبنا القومي يفرض علينا للدفاع عن هذه القضية ونقلها إلى الأجيال القادمة والتعريف بها لمواصلة مسيرة النضال والتحرير وعدم الالتفات إلى زمرة المطبعين من جلدتنا.. وما النصر إلا صبر ساعة.
باحث بسلك الدكتوراه- جامعة سيدي محمد بن عبد الله- فاس