حميد عقبي: الغُربةُ كطفلٍ صامت: تأمُّلٌ في نصٍّ الشاعر التونسي علاء الدين السعيدي

حميد عقبي
في نصٍّ قصيرٍ يُشبه ارتجافةَ قلبٍ على حافّة الغياب، يمنحنا الشاعر التونسي علاء الدين السعيدي ما يُشبه ومضةً شِعريةً مرتجفةً تُجسّد لحظةَ انكسارٍ داخلي، حيث تتشظّى الروح ويصمتُ المعنى. تتمثّل الغربة هنا كمنفى جغرافي، وكذلك نفسيٍّ وجسديٍّ، كطفلٍ صامتٍ يتكوّر في أعماق الذات، يرتجفُ دون بكاء، فيما الحواسّ تتجمّد، والكلمات تتيه في زحامٍ لا يُحتمل.
الـ”أنا” الشعرية تتكلّم من داخل القمقم، مثلَ جِنٍّ فقدَ سلطتَه، أصبح عاجزًا عن تحقيق أمانيه وأماني غيره، والأكثر قسوةً هو فقدان الرغبة في الكلام. كأنّ الذات تذوب في بردٍ داخليٍّ، في منفى التضاريس والمناخ واللغة والمعنى.
هنا، يُصبح الطائر بلا جناحين، والكتابة فعلَ مقاومةٍ أخير ضدّ التلاشي. الرماد، الحُطام، الضجيج، كلّها صورٌ تنقلنا إلى مشهد النهاية الصامتة لصوتٍ كان يومًا يُغنّي.
لنتأمّل هذا النصّ الذي يكاد يُلامس هشاشتنا جميعًا كمبدعين، حين تنقطع خيوط الانتماء، ويُصبح الحنين مجرّد صدى بعيدٍ لذاتٍ تتلاشى وتندثر.
نص علاء الدين السعيدي:
في هذا الزّمنِ المَسخِ
أُفكِّرُ في خيانةِ كُلِّ شيءٍ
أنا الحَبيسُ في القِمقِمِ
مثلَ جِنِّيِّ المِصباحِ
لا أَهميّةَ لأَن أُحاوِرَ أَحدًا
نَفسي مُتَجمِّدةٌ مثلَ جَليدِ القُطبِ
لا أَستطيعُ التَّركيزَ في أَيِّ شيءٍ
أَبحثُ في داخِلي عن كَلِماتٍ لِكِتابي الأَخيرِ
طائرًا بلا جَناحَينِ
يَأخُذُني بلا عَودةٍ
حَيثُ لا أَجِدُني على هَيئتي الأُولى
حُطامًا…
رَمادًا…
لِما تَبقّى من كُلِّ هذا الرُّكامِ
ضَجيجًا صاخبًا وسطَ كُلِّ هذا الزِّحامِ.
قراءة نقدية
يُقدّم الشاعر التونسي علاء الدين السعيدي نصًّا يمتاز ببساطةٍ لغويةٍ ظاهرة، تقودنا دون عناءٍ إلى عمق التجربة الشعوريّة. هذه البساطة لا ينبغي تفسيرها بالضعف، بل هي اختيارٌ واعٍ لأسلوبٍ نراه شائعًا في الكتابات العربية الجديدة. هذا النمط من النصوص يميل إلى اللحظة وينسجم مع طابع الومضة، المعبّرة عن مواقف الانهيارات الداخلية التي تُصيبنا، حيث لا مجال للزخرفة أو التجميل، بل لإطلاق المشاعر في حالتها الخام.
تكمن قوة مثل هذه النصوص في قدرتها على تحويل المفردات اليومية إلى صورٍ داخليةٍ كثيفة، تُلامس مشاعر الضياع والتيه لدى الإنسان المعاصر والمغترب بشكلٍ خاص، سواء في المهجر أو داخل وطنه، لا سيّما المثقف، الأكثر حساسية. نحن أمام اشتغالات داخلية صرفة، لا تعتمد على سردٍ خارجيٍّ أو أحداث، لكنها أشبه بنسيجٍ دراميٍّ من مشاعر الحصار والجمود والتآكل الذاتي.
كما يُلاحَظ توظيفُ بُعدٍ خرافيٍّ – ليس بقصدِ الهروب من الواقع، بل لتكثيفه رمزيًا. الجني الحبيس، الطائر بلا جناحين، كلّها رموزٌ تندرج ضمن ميراث الأسطورة، ويُعاد العمل على صياغتها هنا كصرخاتٍ داخليّةٍ صامتة. هذه الرموز تُقدَّم كردّة فعلٍ شعريّةٍ تجاه طغيانِ المادة، وضجيج الحروب المعاصرة، حيث يفقد الإنسان صوته، قدرته على الحوار، وحتى رغبته في النجاة.
إنّ هذه النوعية من النصوص مثخنةٌ بتأمّلٍ مرتجفٍ في الاغتراب، واغتراب المعنى ذاته. يتحوّل البكاء ورثاء النفس إلى همسات، وهذه الهمسات ترسم جوهر المأساة. هذه الكتابات لا تبحث عن بطولاتٍ خارقة، بل هي أشبه بتمثيلاتٍ عن شذراتٍ من حضورٍ هشّ، وهو ما يمنحها قيمتها الحقيقيّة كوثيقةٍ داخليّةٍ للمبدع العربي، الذي يعيش فريسة التهميش، فيُصبح هشًّا في زمنٍ تزداد فيه وحشيّة العالم وفوضاه.