حسن مخافي: في الحاجة إلى مجتمع مدني يتبنى القضية الفلسطينية

حسن مخافي
لقد بات واضحا لدى كل متتبع للصراع العربي الصهيوني أن كل الحروب التي خاضها العرب ضد هذا الكيان المغتصب إنما كانت حروبا ضد “إسرائيل” في ظاهرها، ولكنها في حقيقتها وجوهرية حروب ضد الهيمنة الأمريكية خاصة، وضد الأطماع الغربية في العالم العربي بصفة عامة.
إن هذه الحقيقة التي أصبحت راسخة عبر تاريخ هذا الصراع، تفسر تواطؤ بعض لأنظمة العربية ضد المصالح الاستراتيجية للشعوب العربية، وتبين بما لا يدع مجالا للشك أن تلك الأنظمة كلما ازداد قربها من الغرب كلما أجبرت عن التخلي عن واجبها في الدفاع عن الأرض العربية وقضايا المواطن العربي.
لقد نجحت أمريكا في جعل أغلب الأنظمة العربية منقادة لرغبتها في تحويل الوطن العربي إلى منطقة نفوذ خاصة بها، بعد أن أقنعت بعض القادة العرب أنها من يصون أنظمتها وأمن بلدانها. وفي ظل غياب أي شكل من أشكال الديمقراطية في وطننا العربي، فإن ما كان يسمى إلى عهد قريب، النظام العربي، لم يعد يستمد شرعيته من شعوب المنطقة، بل إنه يضمن استمراريته من “التزكية” الممنوحة له من قوى الإمبريالية العالمية. ولا جدال في أن لذلك أثمانا اقتصادية وسياسية تجعل مقدرات دول عربية بكاملها رهن إشارة المصالح الأمريكية والأوربية.
إن تحول بعض الدول العربية إلى مجرد كيانات تحظى بالرعاية الأمريكية أدى إلى إقصائها لأي نهج ديمقراطي ما دامت أمريكا تضمن لأنظمتها البقاء، وما دامت تلك الأنظمة تسمح لأمريكا بإطلاق يدها في نهب بلدانها والتحكم في مصائرها.
وقد ازدادت فكرة الاعتماد على أمريكا رسوخا لدى هذه الطائفة من الحكام العرب بعد عزو العراق وتغيير نظام الحكم فيه بالقوة، ولكنها بدت أكثر سطوعا مع ما يسمى بالربيع العربي الذي تبين أنه ساهم بشكل أو آخر في استفحال حالة التشتت التي يعيشها العالم العربي الآن، وخاصة بعد الغزو الأطلسي لليبيا وإسقاط نظامها السياسي، وتغيير نظام الحكم في سوريا بفرض حصار شامل على شعبها لمدة عقد من الزمن، واختلاق مشاكل اجتماعية واقتصادية لبلدان عربية أخرى مثل تونس واليمن.
أدى هذا الوضع الناتج عن الغزو الأمريكي للعراق واستغلال الربيع العربي بتلك الطريقة التي خرجت به عن أهدافه المعلنة والمشروعة، إلى إشاعة فكرة مفادها أن أمريكا تملك القدرة على إضعاف أي نظام سياسي عربي لا يستجيب لشروط المرحلة، وبذلك ازدادت الهوة اتساعا بين الأنظمة وشعوبها ووصلت العلاقة بين الحكام والمواطنين إلى حد التناقض إزاء بعض القضايا المصيرية وعلى رأسها القضية الفلسطينية.
لقد شكل “طوفان الأقصى” وما ترتب عنه من تنكيل بالشعبين الفلسطيني واللبناني امتحانا حاسما لعلاقة الحكام بالشعوب في الوطن العربي. فبينما يخرج المواطنون في البلدان العربية في مظاهرات حاشدة تطالب بالانتصار لإخوانهم الفلسطينيين، وبفتح باب التطوع للدفاع عن الأرض والعرض، تزداد العلاقة متانة بين بعض الأنظمة العربية وبين الكيان الصهيوني، الذي أنشئ أساسا كي يكون ذراع الهيمنة الأمريكية والغربية في المنطقة، على المستوى الاقتصادي والسياسي.
إن هذه المفارقة بين الموقف الشعبي والموقف الرسمي في العالم العربي، لم يسبق أن تم تسجيلها بهذه الحدة وبهذا الوضوح، ذلك أن الزعماء العرب ظلوا قبل هذه الفترة يعقدون اجتماعات عادية أو طارئة تحت قبة الجامعة العربية كي يبلوروا مواقف كانت تعبر عن حدا أدنى من التضامن. ومع ذلك كانت تشكل رادعا معنويا ذاتيا للقادة العرب أنفسهم، يجعل من التحالف الموضوعي مع قوى الاستعمار الجديد أمرا صعبا.
وبقيت الأمور على هذه الحال إلى حدود التسعينيات حيث باتت أغلب الأنظمة العربية تعيش تحت رحمة الحكومات الأمريكية المتتالية التي ترى في “دولة إسرائيل” مسألة مصيرية لأسباب تاريخية واستراتيجية لا مجال للتفصيل فيها.
لقد شكلت الجامعة العربية منذ نشأتها في أواسط القرن الماضي إطارا يحفظ التضامن العربي في حده الأدنى، وقد وصل التضامن العربي إلى مداه الأقصى إبان حرب أكتوبر 1973، حين ساهمت جيوش عربية إلى جانب دول المواجهة في المعارك التي كادت تسفر على نصر ساحق. كما كان لاستخدام النفط في الحرب أثر كبير في رد الاعتبار للوطن العربي شعوبا وأنظمة في نظر العالم. إلا أن عوامل داخلية خاصة بكل بلد عربي، وأخرى خارجية لها علاقة بالتحول الجيوسياسي العالمي، أدت إلى جعل التضامن العربي يتآكل شيئا فشيئا إلى أن آل إلى ما يشبه العدم.
وبعد أن دخلت الجامعة العربية في موت إكلينيكي أصبح الموقف الرسمي العربي منقسما على نفسه تجاه حرب الإبادة التي يشنها الكيان الصهيوني ضد الشعب الفلسطيني.
فهناك من يتواطأ علنا مع قوى العدوان بحجة أن الحرب تدور رحاها بين حماس وبين “إسرائيل”، وأن الفلسطينيين لم يستشيروا القيادات العربية عندما قرروا القيام بما قاموا به، وهو مبرر كاف حسب هذا الموقف، لتركهم يتعرضون للإبادة، كما أنه مبرر للحكومات العربية التي تقيم علاقة مع ذلك الكيان الغاصب لعدم إبداء أي رد فعل عملي تجاهه، ومن ثمة لم تمتلك مجرد الجرأة على سحب سفرائها بإسرائيل كشكل من أشكال الاحتجاج. بل إن وتيرة “التعاون” بين الكيان الصهيوني وبين بعض الأنظمة العربية ازدادت خلال الحرب على المستوى الاقتصادي والسياسي.
وهناك من الحكام العرب من يمارسون اللعبة خلسة، إذ لا يقيمون علاقات دبلوماسية مع الكيان الصهيوني ولكنهم يسهلون مهمته في الكواليس عبر فتح الأجواء للطائرات الإسرائيلية والوقوف سدا أمام صواريخ المقاومة العراقية واليمنية باعتراضها بحجة انتهاك سيادتها الترابية، التي استبيحت منذ زمن بعيد بوجود القواعد الأمريكية على أراضيها.
وهناك من الحكام العرب من أصبحوا يمتهنون حرفة الوساطة بين إسرائيل وحركات المقاومة. وهم بذلك يتعاملون مع القضية الفلسطينية بنوع من الحياد وكأنهم ليسوا طرفا في معادلة الصراع. وقد نجح هؤلاء مرارا في كبح جماح المقاومة بفرض الهدنة تلو الهدنة، ولكنهم فشلوا فشلا ذريعا في إيقاف حرب الإبادة التي تمارس منذ أمد بعيد عل على الشعب الفلسطيني، إما بقوة السلاح أو بفعل الحصار والتجويع.
والقلة القليلة من الحكام العرب صمدوا في نصرة القضايا العادلة للشعب الفلسطيني، ولكن دور هؤلاء ظل محدودا للغاية، إما لأنهم بعيدون جغرافيا عن موقع الأحداث، أو لأن لديهم مشاكل داخلية يغذيها الغرب، تمنعهم من الانخراط المباشر في الصراع، أو لأنهم أنفسهم في حاجة إلى دعم يضمن استمرارهم بعد أن أنهكهم الحصار الأمريكي. لذلك بقي موقفهم معنويا، لا يقدم ولا يؤخر في سير الصراع.
وفي جميع الحالات فإن القضية الفلسطينية لا يمكن أن تحل إلا بالقوة الحية التي تزخر بها مجتمعات الوطن العربي، وهي وحدها القادرة على وقف النزيف الذي تعانيه البلدان العربية كي تسترد عافيتها وتصبح قادرة على مواجهة الأطماع الخارجية.
والطريق الوحيد نحو ذلك يتم عبر خلق مجتمع مدني حقيقي قادر على أن يشكل ثقلا سياسيا واجتماعيا لردع المتخاذلين وإشعارهم بأن الشرعية الحقيقية لأي نظام تستمد من الشعب وليس من الحماية الأمريكية.
إن شعار توحيد الساحات الذي أبانت الأحداث عن نجاعته في مرحلة من مراحل الكفاح الذي تخوضه المقاومة ضد الاحتلال، ينبغي أن يتحول إلى واقع يعم البلدان العربية، ولا يتأتى ذلك إلا بتنسيق بين مكونات المجتمع المدني، يفضي إلى ابتكار بنيات تنظيمية تضمن حرية الحركة، بشرط الاحتفاظ بالحق في الاختلاف والتسليم بالتعدد.
إن جميع التنظيمات الأفقية التي أوجدها النظام العربي المأسوف عليه طيلة أكثر من سبعين عاما من الصراع ضد الصهيونية ومن يقف خلفها، أعلنت إفلاسها خلال هذا الامتحان الكبير الذي يجتازه العرب اليوم، والذي لا يقبل الحياد. فما غزة والضفة ولبنان سوى جبهة أمامية لصراع يمتد على طول الوطن العربي من المحيط إلى الخليج. وفي غياب أي وعي بخطورة التهديدات التي تتربص بالبلدان العربية، فإن الحاجة ماسة إلى تنظيم عمودي يقوده المجتمع المدني للبلدان العربية، يأخذ على عاتقه تعميم شعار “وحدة الساحات” من أجل وقف النزيف الذي تتعرض إليه فلسطين ولبنان، والعمل على تحرير الإنسان العربي في أفق الإقرار بالدمقراطية التي بدونها لا يحسن الحاكم الإنصات إلى نبض الشارع العربي ورغبته في تحرير الأرض والإنسان.
كاتب مغربي