د. كمال ميرزا: أبا نضال: لماذا أمسكتَ الخزانة أن تقع!

د. كمال ميرزا
هذا الأسبوع فقدتْ فلسطين حبيباً عزيزاً، وفقدَ النضال الفلسطينيّ والحركة الوطنيّة الفلسطينيّة أحد آخر الرجال المحترمين!
نادِهِ إذا شئتَ باسمه حين بشرّتْ به داية مبروكة اليد: غطّاس صويص..
أو نادِهِ باسمه الحركيّ الذي عُرِفَ به طوال سنوات نضاله: نزيه أبو نضال..
ولا بأس إذا خلطتَ بين الاسمين: نزيه أبو غطّاس، نضال أبو صويص..
أو إذا شئتَ فانحت له اسماً ثالثاً.. لا يهم.. فأمثال الحبيب “أبو نضال” هم الذين يُضفون على الأسماء والكلمات المعاني وليس العكس!
في ستينيّات القرن الماضي ترك مقاعد دراسته الجامعيّة في مصر بعد أن أوشكتْ اللقمة أن تصل إلى “الثُم”، ونبذ وراء ظهره ما تحمله الشهادة الجامعيّة أيامها لأبناء جيله من وعود بالبحبوحة والارتقاء الوظيفيّ والمناصب والأبهة والمكانة الاجتماعيّة و”البرستيج”.. والتحقَ بالثورة الفلسطينيّة منذ لحظاتها الأولى، ونذَرَ لها زهرة شبابه وأجمل سنوات عمره.
ـ ما نفعُ الشهادة وفلسطين مُحتلّة؟ ثمّ إنّ الشهادة مقدور عليها.. يمكن العودة وتحصيلها بعد تحرير فلسطين!
هذا كان لسان حال الحبيب “أبو نضال”، والذي يشابهه من حيث الفحوى والمضمون لسان حال عزيز آخر وجيل آخر سيأتي بعده بسنوات، صديق العمر “بلال عياصرة” أول شهيد أردنيّ على ثرى العراق أبّان الغزو الأمريكيّ سنة 2003:
ـ إحنا دايما بنحكي.. إجا الوقت نفعل!
هكذا هو منطق الشهداء والمناضلين الحقيقيّين في كلّ زمان ومكان: بسيط.. ومباشر.. ومُفحِم!
لـ “بلال” أيضاً بيت شعر كان يردّده:
((ونحن أرقُّ الناس طبعاً وإنّما.. إذا دعتْ الجُلّا كنّا لها الجمرا)).
لم أعرف أحداً بعد “بلال” ينطبق عليه هذا البيت مثل الحبيب “أبو نضال”!
الغالبيّة عرفوا “نزيه أبو نضال” المُناضِل المتفانيّ والمُخلِص.. وكثيرون يعرفون “نزيه أبو نضال” الكاتب الألمعيّ والناقد المُقدَّر.. ولكن قلّة من المحظوظين أمثالي قُدّر لهم أن يعرفوا “نزيه أبو نضال” الإنسان!
أنتَ لم تعرف تماماً معنى طيبة النفس ونقاء السريرة إذا لم تعرف “أبو نضال” عن قُرْب..
وأنتَ لم تعرف تماماً معنى صدق المودّة إذا لم تعرف الحبيب “أبو نضال” عن قُرْب..
وأنتَ لم تعرف تماماً معنى الكرم، وأن تكون موضع تأهيل وحفاوة وتقدير حقيقيّ ما لم تحلّ ضيفاً على “أبو نضال” وحبيبة قلبه ورفيقة دربه نينا الجدع/ أم نضال!
هذه مسطرة يمكن أن تستعين بها في حياتك وتميّز بها بين الصادق والكاذب.. والأصيل والمزيّف.. والسمين والغَث:
اللئيم ـ مهما جَعجَعَ وبَعبَعَ ـ لا يمكن أن يكون يوماً مُناضلاً حقيقيّاً أو وطنيّاً مُخلِصاً..
والحقود ـ مهما تزيّن وتلوّن ـ لا يمكن أن يكون يوماً مُناضلاً حقيقيّاً أو وطنيّاً مُخلِصاً..
والبخيل ـ مهما تدثّر بالتديّن الطقوسيّ ومكارم الأخلاق ـ لا يمكن أن يكون يوماً مُناضلاً حقيقيّاً أو وطنيّاً مُخلِصاً..
أليس هذا هو سرّ غزّة وأهلها ومقاومتهم الباسلة الذين جادوا بكلّ شيء حبّاً بوطنهم وأقصاهم.. وفي نفس الوقت ترفّعوا عن كره مَن يكرههم، وبُغْض الأمّة التي خذلتهم، والأنظمة التي تحقد عليهم، والحكّام الذين يعضّون عليهم الأنامل من الغيظ؟!
وفي المقابل أليستْ هذه هي اللعنة التي ابتُليَتْ بها فلسطين والأوطان والأمّة برمّتها: أصبحتْ نهباً لكلّ لئيم حقود حسود بخيل طمّاع “فجعان” لا يشبع؟!
تخيّل بعد كلّ هذا أن يأتيكَ وغدٌ ما ويسألكَ: غطّاس صويص/ نزيه أبو نضال كان فتح الثورة أم فتح الانتفاضة.. قوميّاً أم ناصريّاً.. لينينيّاً أم تروتسكيّاً.. ستالينيّاً أم ماويّاً.. مسلماً أم مسيحيّاً.. كاثوليكيّاً أم أرثدوكسيّاً.. أردنيّاً أم فلسطينيّاً.. فحيصيّاً أم سلطيّاً؟!
لا أعرف شتيمةً رغم ثراء معجم شتائمي المُقذِعة وألفاظي النابية يمكن أن تفي طارحي مثل هذه الأسئلة حقّهم.. خاصةً في السياق الحالي!
العزيز “أبو نضال”، يبدو أنّه في السابق قد كان هناك في العمر بقيّةٌ والصحة جَلَدٌ مكّناكَ من تحمّل مرارة فقد حبيبكَ “غالب هلسه”.. ولكن اليوم، يبدو أنّ العمر والصحة لم يُسعفاكَ للتحامل على مرارة فقد حبيبكَ “فخري قعوار”!
في آخر عهدي به اعتدتُ أن أمازح “أبو نضال” قائلاً: “ليش ما خليت الخزانة توقع يا أبو نضال”؟! وذلك في إشارة إلى قصة طريفة، أو بالأحرى موحية، أخبرني بها أيام انخراطه المحموم في النضال.
لن أروي تفاصيل هذه القصّة، أولاً لاحتفظ لنفسي بشيء من خصوصيّة العلاقة أُباهي بها الآخرين. وثانيّاً لأنّ “أبو نضال” بما عُرِفَ عنه من وفاء جمّ لرفاق دربه وسلاحه ونضاله كان يُميّز جيداً بين “شهادة للتاريخ” تستحقّ أن تُروى وتعرفها الأجيال ليأخذوا منها الدروس والعِبَر.. وشهادة “ضدّ التاريخ” لا تقود إلّا إلى القيل والقال وتقمّم الشهرة والأضواء وكفر الأجيال الشابّة بتاريخهم وسِيَر أوطانهم وأعلامهم!
الحبيب “أبو نضال” ها قد اكتملتْ الدائرة؟ ولكن اعلمْ أنّ دائرة حبّكَ في قلوبنا مكتملةٌ منذ اليوم الأول!
نعزّي فلسطين برحيل الحبيب غطّاس صويص/ نزيه أبو نضال..
ونعزّي الأردن برحيل الحبيب غطّاس صويص/ نزيه أبو نضال..
ونعزّي الفحيص برحيل الحبيب غطّاس صويص/ نزيه أبو نضال..
ونعزّي الغالية “أم نضال”، والعزيزين مها ونضال، والأحفاد عمر ومروان وفرح وفارس، والصهر العزيز طارق، والكنّة العزيزة شذا..
ونعزّي صديق العمر المُخلِص الدكتور “نبيل بطارسة” وزوجته الفاضلة “إخلاص مزاهرة”..
ونعزّي أحبّته ورفاقه وأسرى سحره وحلاوة معشره وهم كُثْر..
ونعزّي الأمّة وجميع أحرار العالم..
ونعزّي أنفسنا.. وإن كان فقْد إنسان مثل الحبيب “أبو نضال” ممّا يصعب أن تُعزَّى به النفس!
كاتب اردني