اياد أبو روك: ما بين دير ياسين وقرية خزاعة تتشابه القبور وتختلف الأزمنة

اياد أبو روك: ما بين دير ياسين وقرية خزاعة تتشابه القبور وتختلف الأزمنة

 

اياد أبو روك

في قلب الجرح الفلسطيني المفتوح منذ أكثر من سبعين عاما تنبض قريتان بألم واحد وإن فصل بينهما الزمن. قريتان على طرفي الذاكرة لكن بينهما خيط دم واحد وصرخة واحدة ووطن واحد لا يزال ينتهك في كل لحظة دير ياسين وقرية خزاعة اسمان محفوران في ذاكرة العمق الفلسطيني.
دير ياسين تلك القرية الجميلة التي كانت تنام بأمان في حضن القدس استهدفت ذات صباح لأنها كانت حقيقية لأنها كانت تنبض بالحياة بالمحبة بالجذور التي ترفض أن تقلع تسللت الوحشية الصهيونية إليها من بين الزيتون والحجارة ونفذت فيها مجزرة بلا رحمة بلا رادع بلا إنسانية قتل الأطفال في أحضان أمهاتهم واغتصبت الأرض كما تغتصب الروح ثم أعلن النصر على الركام على الأشلاء على الذاكرة.
ومرت السنوات وسقطت أوراق كثيرة لكن الدم لا يجف في الجنوب تنبض خزاعة بالوجع ذاته خزاعة ليست مجرد قرية قرب خان يونس بل هي دير ياسين التي كبرت ولم تمت كأن الاحتلال وهو يعيد رسم مشاهد المجازر لا ينسى خطواته الأولى فيعود إلى خريطته القديمة ليكرر الجريمة ولكن بأدوات أحدث وبعالم أكثر صمتا.
في خزاعة القرية الحدودية لا تسكن فقط العائلات بل تسكن الحكايات ولا تزال فيها بعض البيوت الطينية التي تتجذر بعبق التاريخ القروي التي لا تملك نوافذ ضد القصف تعيش الأرواح الفلسطينية التي رفضت أن تهاجر وتمسكت بجذورها رغم الحصار رغم الخوف رغم الموت الذي يدق الأبواب مع كل فجر.
ومع كل حرب علي غزة تتسلل اليها العصابات الصهيونية وتهبط الطائرات وتتساقط القنابل بلا رحمه وتتحول القرية إلى كابوس حي لم يكن في خزاعة جيوش ولا قواعد عسكرية كان فيها فقط أمهات يحضرن الخبز وأطفال يرسمون على الجدران وشيوخ يسقون الزرع ويعلقون مفاتيح العودة في صدورهم فجأة سقطت البيوت فوق رؤوس ساكنيها وانهارت جدران الطفولة وبقيت الصرخات بلا صدى.
تكررت مشاهد دير ياسين في خزاعة لكن هذه المرة كانت أمام عدسات الإعلام في زمن العولمة في زمن الإنسانية التي تتباهى بالحضارة ومع ذلك لم يتوقف شيء صرخات الأطفال في دير ياسين لم تسمع وصرخات خزاعة ضاعت في ضجيج العالم في جدران الأمم التي اعتادت أن تدير وجهها عن الدم الفلسطيني.
خزاعة مثل دير ياسين كانت محاصرة لا أحد استطاع أن يدخل لا طواقم إسعاف ولا صليب أحمر ولا حتى كلمة رحمة نزف الجرحى حتى الموت وذابت جثامين الشهداء تحت الأنقاض ووقف الأحياء على أنقاض أحبتهم دون أن يتمكنوا من وداع أو دفن أو صلاة المشهد واحد فقط تغيرت الكاميرا واختلف التاريخ.
وفي كل مرة تفتح فيها صفحة جديدة من صفحات الوجع تعود خزاعة إلى الواجهة ليس لأنها قرية كبيرة أو محورية بل لأنها قالت لا لأنها تشبه الأرض التي لا تموت ومؤخرا وقعت مجزرة أخرى كما لو أن التاريخ يصر على استكمال سطوره بالنار ستة فلسطينيين قتلوا في ليلة واحدة خمسة منهم من عائلة واحدة عائلة قديح طووا دفعة واحدة تحت سقف انهار فوق أحلامهم البسيطة وفي الصباح قتل السادس في تجمع مدني بينما كانت طائرة تحوم في السماء كأفعى تبحث عن فريستها لم يكن معهم سلاح لم يكونوا مقاتلين كانوا فقط فلسطينيين وهذا يكفي.
بين دير ياسين وخزاعة تشابه مؤلم ليس فقط في عدد القتلى أو طريقة الموت بل في رمزية القتل الاحتلال لم يقتل فقط أفرادا بل قتل الإحساس بالأمان قتل الحلم وقتل ما تبقى من ثقة في الإنسانية لكنه رغم كل ذلك لم ينجح في قتل الذاكرة ففي كل بيت فلسطيني تعيش دير ياسين وتنهض خزاعة في كل طفل يولد من تحت الركام يولد جيل جديد يقول أنا من هناك ولن أرحل.
في فلسطين القرى لا تموت قد تهدم البيوت وقد يمحى الاسم من الخارطة وقد تقطف الأرواح كأوراق الخريف لكن القرى تبقى في وجدان الناس في الأغاني في الحكايات في الصور المعلقة على الجدران خزاعة اليوم هي دير ياسين الغد ودير ياسين لم تكن نهاية الحكاية كما أن خزاعة ليست آخر السطر.
هنا في أرض لا تزال تكتب بالدم تبدأ الحياة من الشهادة ويبدأ المجد من ركام البيوت وما بين دير ياسين وخزاعة تتشابه القبور وتختلف الأزمنة.
كاتب فلسطيني