حماد صبح: قصة قصيرة.. تينة الجيران

حماد صبح: قصة قصيرة.. تينة الجيران

 

 

حماد صبح
بعض أغصانها يتكىء على السور الشرقي لبيت الجيران الذي يقابله السور الغربي لبيتنا . ويفصل بين السورين طريق موصد بسياج لا ينفذ إلى الجهة القبلية حيث شجر جيران آخرين من زيتون ونخل، وقمح في موسم زرع المحاصيل. ثمار التينة حين تنضج كبيرة مستديرة ، مخضرة البياض ، فريدة اللذة. ونتفق نحن والجيران علىأنها من تين بلادنا الأصيل، وليس من الأصناف التي تسللت إلى غزة بعد الاحتلال الإسرائيلي في 1967. وتلك الأصناف، مثل مستوطني هذا الكيان، غريبة عن تربةبلادنا ومناخها لكونها مجتلبة من بيئات الأوطان الكثيرة التي قدم منها هؤلاءالمستوطنون . وتشبه هذه الأشجار الغريبة الكثير من الخضراوات التي اجتلبوها معهم. وأكثرها، الأشجار والخضراوات، انتقلت أصنافها إلى غزة.
وتستلزم منكثافة العناية ما لم تكن تستلزمه أشجار وخضراوات بلادنا الأصيلة ، وأمراضهاكثيرة . ويتعجب الناس من حاجة أشجار التين والعنب المجتلبة لسقيها بين الوقتوالوقت من مياه الآبار ، والمألوف أن تين وعنب بلادنا لا يحتاجانه، ويكتفيان بمطر الشتاء. ويستذكرون في حنين شجي أنهم كانوا يزرعون الفاكهتين في تربةالكثبان الرملية ، على قممها وفي أحضانها ، فتنمو وتتعاظم ، وتؤتي أوفر الثماروأشهاها. وأغرت أصالة تينة جيراننا بعض من استطعموا ثمارها مستلذين لها بطلب “عود” منها ليغرسوه في أرضهم.
وبات هذا الطعم جاذبا لأهل الحي كبارا وصغاراليتسابقوا لقطف ما تبلغه أيديهم من ثمار أغصانها المتكئة على السور. وتسبقهمإليها الدُوريات والبلابل والدُج وسواها من الطيور. ويقطفون حتى الثمار التيأكلت تلك الطيور أجزاء منها . وبعض الصبية يتسلقون السور ويقطفون ما تنالهأيديهم من ثمار الأغصان في جانبه الغربي.
ويتسامح معهم الجيران، فلا ينهونهم إلا إذا تسلقوا تلك الأغصان. نسف عدو الحياة والبشر والشجر بيت الجيران يومنسف بيتنا، وهوى السوران أشلاء وكسرا وغبارا، وتلاقت الأشلاء والكسر والغبار، وتهشمت التينة السخية الحنون، وأطبقت على جثتها الحجارة سليمة وشبه سليمة ومحطمة. وعادت قلة من ساكني الحي إلى خرابه المخيف المزلزل، ولم يعد الجيران. بعضهم زاره في أحيان متباعدة. ما كان من مساحة ينصبون فيها خيمة. غطتأنقاض بيتهم كل المساحة، ويلقون على ما كان بيتهم نظرة حزن دامعة، ويعودون إلى ملاذهم.
في ضحوة يوم، أرسلت البلدية جرافتها إلى الحي، وجرافة عن جرافة تختلف. جرافة العدو تخرب وتعسر، وجرافة الوطن تعمر وتيسر. نظفت طريق الحي القصير من أشلاء الحجارة والأثاث المهشم المعجون والأغطية والملابس الممزقة. تزيح كل ماتقدر على إزاحته، وتركمه على جانبي الطريق. وأصيل يوم من أيام أذار، شهرالربيع والأزهار وتغريد الأطيار ونظم الأشعار، انفتحت عيناي على سعتهما، وسطع في قلبي فرح نوراني عز في ظلمة حرب القتل والخراب وعواصفها الهوج المهلكة! نجمت من جوف الركام الحطيم ثلاثة عساليج خضراء! التينة حية ! الجذور التينجت من عاصفة القتل الطاغية دفعت موجات الحياة إلى ما نجا من أصل التينة، نحيت ما حولها من الركام ، وسويت التربة، وطوقتها بأربع حجرات وسقيتها. وأسقيها مرتين أسبوعيا، فتسرع في نموها.
لم يرها أحد من الجيران حتى اليوم ،ولم أخبرهم هاتفيا بعودتها إلى الحياة . سيأتي أحدهم فيراها ويفرح بهذه العودةالمفاجئة آملا أن يعود البيت وسائر بيوت الحي مثلها إلى الحياة.
كاتب فلسطيني