التجاني صلاح عبد الله: عن الشاعر الذي يحترم المرأة

التجاني صلاح عبد الله
رغم أنه عاش في الصحراء منبوذا من مجتمعه، ورغم أنه من الذين اوغلوا وأمعنوا في القتل وفاقوا في ذلك حد المعقول، إلا أن هناك جوانب إنسانية صادقة في حياة شاعرنا، لا يمكن ان ننكرها أو نغض الطرف عنها، فقد صور المرأة العربية صورا مشرقة كريمة أبية، اضافة لقوة إرادته واعتزازه بنفسه، وبالثقة الكاملة التي ميزته عن الكثيرين.
ينصرف البعض في وصف جمال المرأة الخلقي بأكمله، وما تقع عينه عليه، فيبدع في ذلك شيئا كبيرا، من قمة رأسها إلى أخمص قدميها! وهؤلاء هم القسم الأكبر، مع هذا فإن هناك من يهتم اهتماما آخر، ليس إلى جمال الخلقة فحسب، بل جل اهتمامهم بالصفات الخلقية المثالية والفاضلة للمرأة.. سأتحدث اليوم عن واحد منهم، وهو الشنفرى “ثابت بن أوس”، وهو واحد من الشعراء الجاهليين الصعاليك، الذين منهم “تأبط شرا” و”عروة بن الورد” و”السليك بن السلكة” و”لا بواكي له” و”أسيد بن جابر”، و”قيس بن الحدادية “، وربما يكون “الشنفرى” أشهرهم.
أول ما يقفز إلى ذهني هو تائيته المشهورة، والتي قدمنا أنه واحد ممن خالف ما يهتم به عامة الشعراء، وتائيته يختص فيها المرأة، وهي هنا “أميمة” زوجه، بالصفات المثلى، ويصفها وصفا بليغا يتسم بالجزالة والقوة، وهذا هو مكمن إعجابي بها، وربما سائر الناس.
من بعض وصفه، أنها لا تسرع المشي والخطى فيسقط قناعها، مثلما تسقط أقنعة الاخريات، ولا تكثر التلفت لأنه من فعل أهل الريبة، وأميمته المصونة لا تطيل الكلام في الطريق، فهي إذا مشت عيناها تنظران إلى الأرض، كأنها أضاعت شيئا، لشدة حرصها، وإذا تكلمت فإنها لا تطيل الكلام، وهذه هي قمة الحياء المفترض أن يتوفر في كل امرأة، وبعد هذا كله فإنها إذا ذكر خبر النساء، فإنه لا يخزي” الشنفرى” الحديث عنها، وذلك لخفرها وعفتها، وهذه أيضا صفات جيدة، إذا ضمت إلى ما قبلها، فإننا أمام صورة متكاملة إلى ما ينبغي أن تكون عليه الاخلاق الكاملة للمرأة، ولا أجد في ذلك وصفا تستحقه هذه الأبيات أكثر مما وصفها ” الأصمعي” الذي قال: إن هذه الابيات أحسن ما قيل في خفر النساء وعفتهن.
الابيات يقول فيها “الشنفرى” من البحر الطويل:
ألا أَمُّ عَمرو أَجمَعَت فَاِستَقَلَّتِ
وَما وَدَّعَت جيرانَها إِذ تَوَلَّتِ
وَقَد سَبَقَتنا أُمُّ عَمرو بِأَمرِها
وَكَانَت بِأَعناقِ المَطِيَّ أَظَلَّتِ
بِعَينَيَّ ما أَمسَت فَباتَت فَأَصبحَتَ
فَقَضَّت أُموراً فَاِستَقَلَّت فَوَلَّتِ
فَوَا كَبِدا عَلى أُمَيمَةَ بَعدَما
طَمِعتُ فَهَبها نِعمَةَ العَيشِ زَلَّتِ
فَيا جارَتي وَأَنتِ غَيرُ مُليمَةٍ
إِذ ذُكِرتُ وَلا بِذاتِ تَقَلَّتِ
لَقَد أَعجَبَتني لا سَقوطاً قِناعُها
إِذا ما مَشَت وَلا بِذاتِ تَلَفُّتِ
تَبيتُ بُعَيدَ النَومِ تُهدي غَبوقَها
لِجارَتِها إِذا الهَدِيَّةُ قَلَّتِ
تَحُلُّ بِمَنجاةٍ مِنَ اللَومِ بَيتَها
إِذا ما بُيوتٌ بِالمَذَمَّةِ حُلَّتِ
كَأَنَّ لَها في الأَرضِ نِسياً تَقُصُّهُ
عَلى أَمَّها وَإِن تُكَلَّمكَ تَبلَتِ
أُمَيمَةُ لا يُخزى نَثاها حَليلَها
إِذا ذُكَرِ النِسوانُ عَفَّت وَجَلَّتِ
إِذا هُوَ أَمسى آبَ قُرَّةَ عَينِهِ
مَآبَ السَعيدِ لَم يَسَل أَينَ ظَلَّتِ
فَدَقَّت وَجَلَّت وَاِسبَكَرَّت وَأُكمِلَت
فَلَو جُنَّ إِنسانٌ مِنَ الحُسنِ جُنَّتِ
ومع اهتمام “الشنفرى” بالمعاني المثالية والمكارم في أبياته البليغة، التي ربما جعلته مختلفا عن عامة الشعراء الجاهليين الذين يبدؤون أشعارهم بالأطلال، وذكر المرأة وعيونها وجمال قوامها، إلا أنه مع هذا جمع كل الصفات الخلقية والخلقية أيضا في بيت واحد، وهو الشيء الذي يدعو أيضا للإعجاب والرضا الكبيرين، وهو قوله:
فَدَقَّت وَجَلَّت وَاِسبَكَرَّت وَأُكمِلَت
فَلَو جُنَّ إِنسانٌ مِنَ الحُسنِ جُنَّتِ
لأنه يعني أنها دق من أعضائها ما يستحب دقته وفخم ما يستحب فخامته، واعتدلت طولا وأكملت، وبهذا فقد استوفي كل صفاتها في صدر هذا البيت، أما عجزه فهو شأن آخر؛ لأنه يحتمل ثلاثة معان كلها صحيحة (كما يقول رواة الشعر)، الأول هو أنه لو ستر إنسان عن العيون صيانة له عن الابتذال لفعل ب-“أميمة”، والمعنى الثاني أنه يريد لو جن إنسان تفكرا فيما تفرد به من الجمال لكانت “أميمة”، والمعنى الثالث أنه لو أخرج من البشرية إنسان، ونسب إلى الجن لما منح من الحسن، لكانت “أميمة” !
كاتب سوداني