منذر ابو حلتم: كؤوس الصور اللامرئية

منذر ابو حلتم
ذات مساءٍ نسيت فيه اللغةُ كيف تُنطق،
انحنيتُ على ظلّي وقلتُ له:
اصنع لي كاميرا لا تشبه الأرض.
فانحنى الزمن من حولي
كأنّه عنكبوتٌ يعزف على أوتار الضوء،
وصنعتُ من علبة سردين صدئة
بوابةً إلى الغياب.
حفرتُ فيها ثقبًا
بإبرةٍ وجدتها داخل حلمٍ
كان يسير على أربع ويأكل أوراق التقويم.
لم أضع في الكاميرا فيلماً،
بل قطرة من دم الذاكرة،
وريشة طائرٍ نسي لماذا كان يطير.
ثم اختبأتُ داخل الصندوق،
وتركتُ الثقب مفتوحًا…
ليدخل الضوء مثل ثعبان أعمى
يبحث عن جسدٍ يحلم به.
الورقة في الداخل
لم تكن ورقة،
بل جلد كوكبٍ نائم
يتقلّب تحت شمسٍ لم تولد بعد.
وحين نظرتُ إلى “الصورة”،
رأيتُ ساقيّ طفلة تجرّ قمرًا صغيرًا خلفها،
ورأيتُ تفاحة تبتسم قبل أن تُؤكَل،
ورأيتُني أنا… دون وجه،
أكتب هذه الكلمات
على ورقةٍ تنمو فيها أوراق شجر.
دفتر الصور هذا،
لا يُفتح باليد،
بل بالهمس.
تضع خدّك على الغلاف،
وتغمض عينيك،
فينبض غلافه كشفة قلب
ويهمس لك باسمك… كما نطقه الحلم أول مرّة.
كأس أولى – “بزوغ الحرف الأول”
كان الحرفُ الأولُ
جائعًا…
يمشي على أربع،
يبحث عن فمٍ
يولد فيه العالم.
لم تكن هناك سماء،
فارتجف الحرف
وصنعها من زفيره.
كلّ شيءٍ كان صدفةً،
إلى أن نظرت إليه الكلمة
وقالت:
“كن ظلّي يا صديقي، نجرّ الكون معًا.”
فانبعث الزمن،
لا كخطّ مستقيم،
بل كسرب نحلٍ يشرب من زهرة المعنى.
كأس ثانية – “سكر اللغة”
أنا لا أكتب،
أنا أُنزف… لكن بالترتيب.
أفتح جملةً، فتخرج منها حمامة برأس ساعة.
أكسر فعلًا ماضيًا، فيخرج منه طفلٌ يبكي بصوت الأمس.
الحروف ليست حروفًا،
إنها أبواب.
كلّ “أ” هي قوس قزح،
وكلّ “ن” هي موجة،
وكل “ت” … مجرّة تنام على خاصرتي.
أنا الآن في سُكْرِ الكلمة،
أرى الأشياء تذوب وتعيد تشكيل نفسها:
الكرسي يصبح قمرًا،
والنافذة تصبح سؤالًا،
وأنا… لست أنا،
بل ضوءٌ يتجوّل في جسد الفكرة.
كأس ثالثة – ” تماثيل النحاس”
احاول اللحاق بظلي فاسبقه ..
في الافق تضحك نجمة
ثم تقفز في نصف فنجان قهوة باردة
في القاعة تسير ببطء تماثيل النحاس !
اخاطب النافذة .. اسألها عن طفلة الضوء التي تداعب الزجاج كقطة فقدت امها … فتهمس غيمة من وراء ورق الكينا المبلل
رويدك ايها المسافر … فشراعك ينتظر الريح والريح تغفو
تحلم بالموج وبالبحار
كاس رابعة – “أثر الخطوة التي لم تُمشَ”
أصغي لخطوتك وهي لا تأتي،
فتتشقق الأرض على استحياء
وتخرج منها زهرة
تحمل في قلبها خارطة نحو المجهول.
في ركن القاعة
تسعل ساعة جدارية
تحاول أن تتذكّر كيف كان الوقت
قبل أن تبلعه قصيدة.
النافذة لا تجيب…
لكن انعكاس وجهي على الزجاج
يمحو وجهي.
وأنا،
كفكرة تسللت من رأس حبر
إلى كفّ قصيدة،
أحاول أن أصفّف الوقت
كما يصفّف الحالم شعر الحنين
قبل النوم.
كأس خامسة – “الصبح يشرق دون شمس “
دون شمس ياتي الصباح
عيناك شمسي يقول شاعر الظلال … وفي الركن من القرميد العتيق تصحو عصفورة
وتكمل غزل معطف الضوء ..
حارس المكتبة العجوز يلملم اعقاب السجائر .. بعد ان عاد ابطال الروايات الى صفحات الكتب العتيقة …
يتمتم بكلمات اغنية بلا كلمات قبل ان يفتح كتابه الخاص ليغفو تحت غطاء الكلمات …
كأس سادسة – “حين تتثاءب القصيدة”
يتثاءب الحرف في زاوية الورقة،
فيسقط منه حرف عتيق…
كان نائمًا منذ قرن
في حضن شاعرٍ نسي كيف يبكي.
في الخارج،
تتسلّل خيوط لا لون لها
كأن الضوء يعيد التفكير في نفسه.
في الطابق العلوي
تعزف الأرض نغمة لا يسمعها أحد،
إلا القطة التي تنام فوق ديوان نزار
وتحلم أنها امرأةٌ من ورق.
كل شيء في هذا الصباح
يحاول أن لا يكون…
إلا الريح،
فهي تكتب بخفة أنفاسها
رسائل على أوراق الشجر
لن يقرؤها أحد.