أحمد الشيخاوي: شعرية الخيانة في تجربة العربي لمنيصري

أحمد الشيخاوي
إن الخيانة كمفهوم في البعد الثقافي والوجودي بشكل عام، وكتيمة في الحقل الشعري، على نحو خاصة، من الإجحاف خندقتها في المدلول السلبي، دائما.
لأننا قد نقف عند عتبات الماهية الإيجابية، لهذا المفهوم أو التيمة، عند بعض المبدعين الذين استطاعوا كتابة تجاربهم بوعي سياسي كبير، وهم قلّة، بكل تأكيد، بل إننا قد نغوص مع النزر القليل منهم، في تلكم الماهية المجسّدة لجماليات القبح في نظير هذه المفردة، تحديدا.
من يطالع للشاعر المغربي العربي لمنيصري، يستشف زخم الجدلية المفتية بضرورة تخليق السياسي للثقافي والعكس بالعكس، علما أنه في الكثير من المحطات، ما ينّبه إلى اليأس من كهذه عملية، قد تك كاسحة للفضاء الشعري، بما يشوّه ملامحه الفنية، ويشوّش على أبعاد رسالته.
لقد تقلب شاعرنا ما بين المطولات كما الإبداع الشذري، انطلاقا من ذات الخلفية التي تترجم وعيه السياسي الكبير، فأستفز الفهم ودغدغ الذائقة، على حدّ سواء، تشهد له نصوصه المنشورة في بعض المنابر، وإن كانت قليلة جدا وتعدّ على رؤوس الأصابع، نورد له، على سبيل المثال، لا الحصر، نص” تجارة الوهن”، بحيث تبدو عتبته معبّرة عن اليأس البالغ من الواقع السياسي العربي المزري، بما يدفع بالذات الشاعرة، بالتالي، إلى الإسراع بمغامرات الخروج من عنق الزجاجة، في محاولات المتخيل الذي تغذيه جدليات متنوعة ومتداخلة، من قبيل: جدلية الزمان والمكان، وجدلية الثقافة والسياسة، وجدلية الخيانة والأمانة، إلخ…
نبسط النص كاملا، ههنا، بداية، ثم نستأنف تأويل تجربة شاعرنا في عموما، على ضوء هذا الحضور الذي تجسّده قصيدة، من هذا الطراز، أي أنها تستأثر بــ قِناعيتها، إذ تفيد معماريا التوجه الإيديولوجي، بينما تضمر عوالمها التحتية جملة من الهواجس الثقافية التي يختنق بها المبدع العربي اليوم:
تجارة الوهن
لطالما صلينا للمحاريب
المهشمة
نرى انكساراتنا
في المرايا
المحطمة..
بجدلية الزمان والمكان
نخشع ونبتهل
نشدو
قبول صلوات
وصكوك غفران
ذاك حماسنا
في وجدان الزمن..
نبارك كل جميل
والماءات التي
تروي الحياة
لكن الغبن
كل الغبن
نعيشه
في أحشاءنا
عطن
كطعن نصل
كالوشم؛
أنصون عهدنا
ونؤتمن!؟
وتخوننا الأيادي
-أيادينا-
تبيع الوطن
بتفاحة آدم
تخون وتؤتمن؛
تثبط النفوس والأحلام
غواية للشيطان
طقوسا وبشائر
أنترك هاهنا
في العزاء قابعين.؟
وذنبنا
رثاء صلاح الدين
نشتري أحلامنا
هموما
من تجار الطين
-تجار الوهن-
عندما تنخفض الأسهم
قليلا
يرج جلجل الفناء
-جرح فلسطين-
نصحو نائمين
ولا جديد حصل
لكن…
قد ينتشي الرعاع
لحظات حنين
ويستهيم،
ينشد النجاة
من نخاسيه
يشرد من الرسن؛
يسقي تفاحة آدم
لوحده
يحرس الوطن.
من خلال هذه المطولة، نلفيه وقد استهل بعقدة تعصبنا للماضوية المنكمشة على قصور الوعي العربي في فهم المقدس فهما حقيقيا، بل وجوب إحاطته بمقاربات جديدة، واسئلة نابعة من مريا أجيال تتعاقب وتتجدد، إذا ما استثنينا، بالطبع، الثوابت، باعتبارها خطوط حمراء، فهي عابر للأزمنة والأمكنة، والخوض في حيثياته، يظل مجرد مضيعة للوقت وهرطقات قد تدفع الأجيال ضريبتها.
فينتقل إلى أزمة الهوية، بحيث يسهب في مناولتها، على سجيته وطريقته، معتمدا على ميكانيزمات الملمح الطقوسي تارة، ومجدّفا ضد الأنساق الزمكانية، تارة أخرى، كما مراوغا بذاكرة المورث المثقوبة في الكثير من الأحيان، وقياسا إلى نصوص أخرى له، غير هذه الفسيفساء التي بين أيدينا، إضافة إلى استحضار الرموز.
المهم أنه أبهر بانزلاقه من الفخ السياسي، إلى موسوعية المثقف الزئبقي والمنفلت الذي يفكر بقلب شاعر متوهج الوعي.
لقد أسقط من السياسة على الثقافة، حين بطن العتبة بما يبرر مثل هذه الأغراض، فمنح، بالتالي، لتيمة الخيانة، فلكلوريتها الآسرة.
بذلك، نهتدي إلى ما يفسّر الشعرية المنشغلة بأسئلة التشظي الهوياتي الذي ينخر وجودنا العربي، حاليا، ويدفع به، صوب نقاط الفناء والتلاشي، بسائر ما يبرز هذه التيمة مصطبغة بشتى أضرب النضارة والإيجابة، وفق وصايا التشخيصات الفنية المتقنة والمسترسلة في أبجديات انقلاب الثقافة على السياسة، ضمن آفاق التجاوز.
ففي اعتقاده هو، على يد الشاعر، أن تمارس الخيانة التي تتحقق لها نكوصية المشهد، أي من عتمة إلى نور، ومن فوضى إلى ترتيب، ومن هدم إلى بناء، وكل هذا لا يتحقق إلى بنظير هذه الخيانات الحربائية المسعفة بخوض مقامرات تمر الثقافي على السياسي، والانتقال الفوري من رهان تخليق السياسة للثقافة او العكس.
يقول:
وتخوننا الأيادي
-أيادينا-
تبيع الوطن.
ويضيف:
جرح فلسطين-
نصحو نائمين
ولا جديد حصل
لكن…
قد ينتشي الرعاع
لحظات حنين
ويستهيم،
ينشد النجاة
من نخاسيه
يشرد من الرسن؛
يسقي تفاحة آدم
لوحده
يحرس الوطن.
من هنا، زخم التجليات التي تقصف الإدراك كما تناغي الذوق، بعمق الفلسفة الوجودية التي ما تنفك ترشق المتلقي بإغراءات ثورة الثقافي على السياسي، عند شاعر خبر القصيدة طويلا، ولو أن سؤال التفرغ لها، أدمى قلبه، طويلا، شأن كثيرين ممن يكتبون في الظل بدربة ومراس، ولكن سرعان ما يصطدمون برزمة من العوائق والمثبطات، لكن الأسرع أوبتهم إلى ذلكم الرّحاب الفوقي القاهر، رحاب الشعر، مدركين أنهم منه مثلما هو منهم، كما الأسماك اختناقها خارج الماء.
هذا دأب الشاعر الفشاري الوطاسي العربي لمنيصري، وقصته النموذجية مع نصوص الظل، في الجرأة والعمق اللذان ما يلبث يرسم بهما ملامح شعريته المنتصرة لألوان الحياة، على الرغم من واقع التشظيات والانكسارات والبكائيات المهزومة.
وإذن.. هي الخيانة الشعرية، في أبهى قوالب مشروعيتها، من وجهة نظر شاعر يفكّر بقلبه، مثلما يتذوق بوعيه، كما هو الحاصل مع المبدع العربي لمنيصري، حسب ما طالعناه له، لحد الآن.
إحالة:
انظر نص” تجارة الوهن”، العربي لمنيصري.
شاعر وناقد من المغرب