نسرين موسى: ملامحنا لاجئة

نسرين موسى
اليوم زرت بروحي المنهكة أحبائي، كنت كأنني أبحث عن ملامح مألوفة ضاعت في زحام الأيام الثقيلة.
رأيت أعينهم، استوطنتها نظرة غريبة، كأن النزوح سكن أيضًا في تقاسيم وجوهنا، تاركًا بصمته الشاحبة على كل شيء.
شعرتُ أنني أنظر إلى نسخ باهتة ممن عرفتهم يومًا، وأن مرآتي لم تعد تعكسني وحدي، بل تحمل أيضًا شيئًا من هذا الشتات الموجع.
مشيت، ومشيت حتى تآكلت روحي قبل أن تتعب قدماي، ثم استسلمت لمواصلة بدائية، تهتز بي وبأوجاعي.
الحديث كان نهرًا جارًفا من حكايات النزوح، أنينًا مشتركًا لأيام اقتلعت منا الأمن والأمان.
“حلويتي” قالت ابنة عمي..
كلماتها بلسم كاذب على جرح نازف.
تنهدتُ، وعرفت أنها تجامل مرآتي الشاحبة، أي حلاوة تبقى في وجه عبث به الخوف والضياع؟ حدثتها عن السوق البائس، رفوف خاوية إلا من علب معلبات صامتة تحكي قصة حصار مرير.
ضحكت بسخرية مريرة هي وزوجة أخي، “كل السوق محصور بالمعكرونة والعدس!” لكن في أعينهن لمعة خافتة، وبروح مثقلة همسنا: “نعمة وفضل، المهم أن ينتهي هذا الكابوس، كابوس الإبادة والنزوح.”
أما أطفالنا… فرحتهم بلقائي كانت وخزًا في قلبي.
أيام النزوح الطويلة باعدت بيننا، فاستقبلوني بلهفة، “جبتيلنا حبة؟” سؤالهم الصغير كسكين مغروس في خاصرتي.
“الحبة” ليست إلا مصاصة بدائية الصنع، لا شيبسي يغريهم، ولا بسكويت يلون أيامهم الشاحبة.
تحدثنا عن كل شيء بصيغة الماضي، كأن حياتنا الجميلة صفحة مطوية لن تُفتح أبدًا..
وصوت الطائرات، ذلك اللحن المشؤوم، لم ينقطع عن عزفه في سماءنا.
الحيرة خيمة منصوبة في عيوننا، والسؤال نفسه يتكرر كصدى أليم: هل سيأتي فجر يحمل معه بشرى انتهاء الحرب؟ هل ستُفتح المعابر المغلقة، وتعود الحياة إلى شرايين مدينتنا؟ هل حان الوقت لننام قريري الأعين، بلا خوف من قصف أو تشرد، بلا دخان أسود يخنق سماءنا؟ هل سنجتمع يومًا، كما اجتمعنا اليوم، ولكن بقلوب تفيض فرحًا؟
غادرتهم، والأسئلة رفيقاتي في طريق العودة إلى زنزانتي، أقصد خيمتي، مكاني الجديد في عالم النزوح.
هنا قطاع غزة، حيث السماء تبكي بصوت الطائرات، والأرض تنزف حنينًا لأيام مضت.
*صحفية وكاتبة
*[email protected]