الحبيب عكي: المغرب: كل البنات “لمياء” وكل النساء “ابتهال”

الحبيب عكي
أتذكر، وفي أحداث ما سمي بالخميس الأسود في الوسط التعليمي المغربي، وما عرفه مما مورس من عنف شنيع على حشود غفيرة من الأساتذة المتدربين، اثر خروجهم للتظاهر والاحتجاج يوم الخميس 7 يناير 2016، ضد مرسومي الحكومة التي نقضت عهدها بالتراجع عن المعهود من ربط التكوين بالتوظيف، فابتدعت ما أسمته بالعمل ب”التعاقد” وهو بؤس غريب عن ميدان الشغل من شأنه أن يطارد الموظف دائما بالخوف على مستقبله المهني والمزاجية في تقييم الأداء، وكذلك تم خفض منحة التكوين إلى النصف (1020 بدل 2450 درهم) بدعوى توسيع عرض التشغيل الذي لم يوتسع، ما لم يستسغه الأساتذة المتدربون فخرجوا بالآلف (10 ألاف الذي هو عددهم وما يماثلها ممن تضامن معهم) في مختلف المواقع للاحتجاج ضد ذلك والعمل على إسقاطه، فنالهم من التدخل الأمني العنيف ما نالهم مما خلف في صفوفهم مئات من المعنفين الجرحى والمعطوبين ناهيك عن الاغماءات في صفوف النساء.
بيت القصيد أنه كانت من الضحايا، أستاذة متدربة من موقع إنزكان أكادير تسمى “لمياء التريكي”، شج رأسها وسالت على وجهها الدماء، ولم تجد حتى من الاسعاف إلا زملائها الذين شدوا رأسها بما أسعفهم من أكفهم ومناديلهم؟. بيت القصيد أيضا، أن الأستاذة “لمياء” وهي في حالتها العصيبة، كانت ترتدي وزرة بيضاء وحجابا “كرونا”، ولم تمضي إلا أيام قليلة حتى أصبح حجابها بلونه الدامي الأحمر القاني، على رأس كل التلميذات والطالبات بل والأستاذات والموظفات وكل شرائح النساء؟، ليس ذلك لجمال لونه وبهاء شكله وحداثة موضته فحسب، بل لرمزيته ورسالته التي وجهتها كل المتدربات وكل المرتديات من نساء المغرب إلى الجهات المعنفة وإلى من ورائها من صناع القرار الحكومي آنذاك، بأنهن كلهن “لمياء” مغربيات حرائر ويرفضن العنف والإهانة و”الحكرة” وهن ضد سلبهن حقهن في التوظيف وفي الإضراب.. وفي التعبير والمشاركة في التغيير.. وفي.. وفي.. وهن ضد.. وضد.. ؟.
واليوم بنفس المنطق ونفس النفس النضالي، ما أن ظهرت المهندسة المغربية الشجاعة “ابتهال أبو السعد” تفضح الشركة الدولية العملاقة والعابرة ببرمجياتها لكل القارات، وبمعلومياتها لكل المجالات، فضحتها بتواطئها مع الكيان الصهيوني وبأنها تدعمه ببرمجيات في الذكاء الاصطناعي تمكنه من إبادته الجماعية بدقة متناهية للأبرياء المدنيين والمقاومين الفلسطينيين في “غزة” الشهيدة المجيدة السعيدة، أطفالا كانوا أو شيوخا ونساء..، فالكل تدمر عليه المباني وتقذف في وجهه المتفجرات، تشعل في أرضه الحرائق.. وعبر معابره يمنع دخول قوافل المساعدات..، فينتعش الموت والاعاقة والتشريد، ولكل من تبقى التهجير القسري أمام كل أنظار العالم، ومهما تظاهرت شعوبه فقد تخاذلت أنظمته وضدا على كل المواثيق الدولية والحقوق الآدمية، وحق حرية واستقلال كل الشعوب أرضا، دينا ولغة..؟.
بيت القصيد، أن “ابتهال أبو السعد” في موقفها البطولي الشجاع هذا، كانت قد ظهرت بحجابها الأسود الأنيق وكسوتها ذات اللون البني المفتوح، كسوة سادلة فضفاضة ولون بني أنيق وجميل، ولم تمضي إلا يومين أو ثلاثة حتى بدأت أرى النساء في الشوارع يرتدين مثل لباس “ابتهال”، وفي المسيرة المغربية التضامنية المليونية التي كانت في الرباط يوم الأحد 13 أبريل 2025، كان اللباس ملفتا للنظر أكثر وأكثر، وكأن شركة أو شركات كانت قد أعدت للمشهد شهرا أو أشهرا من قبل، فاستغلت حدث المسيرة للترويج لبضاعتها والتي نفذت عن آخرها حسب المشاهد الطاغية في المسيرة، والواقع أن لا شيء من ذلك حدث؟.
إنه مخزون الرفض والمقاومة والتضامن الكامن في جوهر المرأة المغربية، والذي لا يتحين غير فرصة زعيم(ة) قدوة أو حدث تنظيمي يوقظه من كمونه وينطقه عن صمته ويغير بوصتله عن فرجويته، وحتى ما قد يبدو عليه أحيانا من التيه والفرجة أو الانشغال بتفاهة المواقع عن مأساة الواقع، إنه ليس كذلك، إنها مسألة سطحية عابرة، “إن المغاربة (كما يقال) هم الجد كل الجد حين يحين الجد”، جد شجاع.. جد مقدام.. جد بطولي.. مقاوم.. مقاطع.. مسعف.. مغيث.. متضامن بكل أشكال التضامن من أكثرها جماعية وجماهيرية إلى أقصاها شخصية وفردانية. ولعل طول وفداحة الحرب العدوانية على “غزة” الشهيدة المجيدة السعيدة، قد أنطق وسينطق كل الصامتين (ة)، وسيتحدى كل الأنظمة المتخاذلة والمطبعين المهرولين..، لا مكان للحياد اليوم، من لم يستطع المشاركة في المعركة فليدعهما، ومن لم يستطع فليشهر لها وليحكي عن أبطالها وداعميها لباسا، كتابة، رموزا فنية..، وذلك أيضا من الدعم؟.
ما الذي يدعو النساء والشباب عموما إلى ارتداء لباس الأبطال والمشاهير والاقتداء بهم وبهن كمعجبين ومعجبات؟. سوسيولوجيا ونفسيا قد يعجب المرء بالنمط الجمالي للشهير (ة) ويرغب في الظهور بمظهر أناقته، خاصة وأن التأثير الإعلامي كثيرا ما يدفع في هذا الاتجاه، كما يدفع في اتجاه التعبير عن الذات والرغبة في الانتماء إلى عالم الفاعلين في عالم كثر فيه القطيع الذين لا يحركون ساكنا شرا فعل بهم أو بغيرهم؟. هذا عموما فكيف بنموذج بطلتينا “لمياء” و”ابتهال” وفيه ما فيه من الجرأة والشجاعة، من الدفاع عن القضايا العادلة، من عدم المبالاة بجدل القيل والقال ولا بمصير الوظيفة والمستقبل المكبل المذل، رفض الظلم و”الحكرة” والاصطفاف إلى جانب الحق وأهله ويؤثرون من أجل ذلك التضحية والتحدي، بدء من تحدي النفس واستكانتها قبل الجبروت والطغيان، لابد للمرء أن يكون له هدف يقوده بيده وإلا أصبح من أهداف ومخططات الأخرين..، وهذا دور الثقافة الأصيلة دائما تجدد نفسها وتلعب دورها ومهما علا صاحبها شيء من غبار وأتربة الزمان والذل والهوان، فلابد أن يلفظه ويعود إلى أصله وفطرته ويعرف أنه لا يصح إلا الصحيح: ” من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم”.. و “يؤكل الثور الأبيض يوم أكل الثور الأسود”؟.
أخيرا، تضحية “لمياء” وزملاؤها الأساتذة قد انتهت (كما تعلمون) ولو بعد عقد من الهدر والمراوغة المتعاقبة إلى ربح المعركة وربح الوطن بالتراجع الاضطراري على المرسومين المشؤومين سبب الحيف على المدرسين، فهل ستنتهي انتفاضة “ابتهال” ومؤيدوها بالملايين إلى نفس المصير، فتتغلب قوة الحق على حق القوة، كيف ومتى؟. أكيد، هذه سنة الحياة وحياة كل المقاومات، سنة صراع الحق والباطل. لكن، يبقى السؤال كما في أحد الأشرطة السينمائية القصيرة الرائعة، حين سيعترف العالم بعد عقود بهذه النكبة التي أردت أخلاقه وضميره في الهاوية، ويسأل الحفيد جده: “وماذا كنتم تفعلون يا جدي؟.. هل اكتفيتم بالتفرج على مشاهدة الإبادة على الشاشات؟، “Shame on you”؟، قالها “الحفيد” وقالتها “ابتهال” وقالتها “لمياء” عندما ارتديتا حجابهما المقاوم وسترتيهما المناضلة، فماذا سترتدي أنت؟، ارتدي كل شيء مما تريد، فقط، لا ترتدي ما يشج رؤوس إخوانك المقاومين البواسل من الخلف وهم يدافعون عن شرفك وشرف الأمة، لا ترتدي قميص برمجيات الذكاء الاصطناعي الغبي وتتصرف كأنك الغبي وأنت الذكي، لا ترتدي ما سيصرخ به التاريخ في وجهك ووجه أمثالك لا قدر الله: ” Shame on you”؟.
كاتب مغربي