محمد المخلافي: العقيق اليمني ارث ثقافي يتحدى الزمن

محمد المخلافي: العقيق اليمني ارث ثقافي يتحدى الزمن

محمد المخلافي
في زوايا التاريخ، حيث يمتزج الفن بالتراث، يبرز العقيق اليمني كأحد أجمل الأحجار الكريمة التي سطرت قصصًا تتجاوز حدود الزمان. يعود تاريخ صياغته إلى أكثر من ثلاثة آلاف سنة. هذا الحجر، الذي يتلألأ بألوانه الفريدة، لا يُعتبر مجرد زينة، بل هو رمز عميق للثقافة اليمنية. من جبال آنس في وسط اليمن إلى أسواق صنعاء القديمة، مدينة سام ابن نوح، يتنقل العقيق حاملاً معه حكايات الأجداد الذين نحتوا الجبال وبنوا القصور والمعابد. يبقى العقيق شاهدًا على مهارة الحرفيين الذين أبدعوا في تشكيله وصقله، ليعكس روح الإبداع والانتماء إلى التراث.
تُعتبر عملية استخراج العقيق وصناعته من الفنون التقليدية التي تتطلب مهارة عالية ودقة في الأداء. يروي فؤاد عبدالله الخضاف، أحد رواد هذه الصناعة، قصته كجزء من عائلة تمتهن صناعة العقيق منذ عقود طويلة في سمسرة النحاس بسوق الملح وسط صنعاء القديمة.
بدأ فؤاد تعلم هذه الحرفة على يد والده منذ طفولته في منتصف سبعينيات القرن الماضي، حيث ورث عنه شغفًا كبيرًا بفنون العقيق.
تبدأ عملية استخراج العقيق بنحت الحجر بعناية فائقة، حيث يستخدم أدوات تقليدية لتقطيعه. بعد ذلك، يتم تنظيفه وتنقيته من الشوائب باستخدام المناشير، وهي خطوة تضمن جودة الفصوص. تلي هذه المرحلة عملية الجلخ، التي تتضمن تشكيل الحجر وتحديد أشكاله المختلفة، سواء كانت بيضاوية أو دائرية أو مستطيلة أو مربعة.
بعد الانتهاء من تشكيل الفصوص، يُخضع الحجر لمرحلة التلميع باستخدام أدوات مثل الصنافر والدباشات، خاصة عند العمل على كميات كبيرة. بهذه الطريقة، يتحول العقيق إلى قطع فنية متألقة تعكس مهارة الحرفيين وتفانيهم في عملهم.
يُستخدم العقيق في تزيين مجموعة متنوعة من الأدوات والمجوهرات، مما يضفي لمسة من الفخامة والجاذبية على كل قطعة. تُعتبر خواتم العقيق من الخيارات الشائعة بين محبي المجوهرات، حيث تحمل في طياتها رموز الفخر والتميز. وغالبًا ما تُهدى هذه الخواتم في المناسبات الخاصة، لتعبّر عن الحب والاحترام.
لا يقتصر استخدام العقيق على الخواتم فحسب، بل يمتد ليشمل صناعة القلائد والأساور، ليكون جزءًا من إطلالات مميزة. كما يتم استخدامه في تزيين الأدوات التقليدية، مثل السيوف والخناجر، مما يبرز الفخر بالتراث الثقافي. هذه القطع الفنية لا تعكس فقط الجمال، بل تسلط الضوء على الهوية الثقافية الغنية لليمن، وتجسد ارتباط الأجيال بماضيهم.
يتكون معمل صوغ الفضيات الحديث من مجموعة متنوعة من الآلات المتخصصة، مثل ماكينة السحب (التسطيح) وماكينة الدبكي، التي تُستخدم لقص القطع والمنمنمات بدقة عالية. بالإضافة إلى ذلك، تشمل المعدات ماكينة تشكيل أسلاك الفضة ومنظومة اللحام بالغاز، وغيرها من الأدوات التي يعتمد عليها الحرفيون في تنفيذ قطعهم الفضية.
تتطلب صناعة خاتم فضي مهارة فائقة، حيث يمكن أن يتكون الخاتم من عشرات القطع الصغيرة، وقد تحتوي بعض التصميمات على أكثر من مئة قطعة ومنمنمة فضية. يُبرز ذلك تعقيد العمل ودقة التفاصيل المطلوبة. يعتمد الحرفي في تشكيل القطعة على مهاراته اليدوية، ليتمكن من إنجاز التصميم النهائي الذي يجسد إبداعه ورؤيته الفنية.
ارتبط العقيق عند الكثير من اليمنيين بكرامات وأساطير تتناقلها الأجيال، ومعتقدات بجلب الحظ وطرد السحر، وامتصاص السموم، ومنح الطاقة والقوة والنشاط. يُقال إنه حين يضرب البرق، يلمع العقيق في الصخر ويعكس ما حوله، مما ينتج عنه ترسبات وتظهر الصور على الحجر.
وأنت تتجول في أزقة صنعاء القديمة، حيث يلتقي التاريخ بالحضارة، يمكنك أن تتأمل في أيدي الرجال والنساء. يحرص الكثيرون على تزيين أصابعهم بخواتم تقليدية مصنوعة من الفضة، تتوسطها فصوص من العقيق بألوانها المتنوعة. هذه الخواتم تجسد الهوية والانتماء، وتعكس جمال التراث اليمني الأصيل.
خلف جمال العقيق يختبئ واقع مرير، فقد تأثرت هذه الصناعة، المرتبطة بتراث اليمن الأصيل، بتحديات عصيبة نتيجة الأزمات السياسية والاقتصادية. تراجع الإقبال على العقيق بسبب توقف حركة السياحة وضعف القدرة الشرائية للمواطنين، مما أثر سلبًا على العاملين في هذا المجال. نتيجة لذلك، أصبح الكثير من الحرفيين يمتهنون أعمالًا أخرى، مثل العمل على الدراجات النارية وفي بيع القات.
ختاما، يتجلى العقيق اليمني كرمز للتراث والثقافة، حيث يحمل بين طياته قصص الأجداد ومهارات الحرفيين. رغم التحديات التي تواجه هذه الصناعة العريقة، يبقى العقيق شاهدًا على الإبداع والتميز، ويمثل حلقة وصل بين الماضي والحاضر. إن الحفاظ على هذه الحرفة ليس مجرد واجب ثقافي، بل هو دعوة لتعزيز الهوية والانتماء في وجه التغيرات السريعة. فلنستمر في تقدير جمال العقيق، ولنحافظ على إرثه، الذي يعكس روح اليمن الغنية وتاريخها العريق.
كاتب وباحث من اليمن