خالد دراوشه: الجريمة بوصفها بنية وجودية: قراءة نقدية في خطاب جيل كوباتش ومنظومته الإسرائيلية

خالد دراوشه
مقدمة
عندما يُفرغ المجرم جعبته الكلامية دون قيد أو خجل، يكون من واجب الفكر النقدي أن يتناول هذه الشظايا اللفظية لا بوصفها انفلاتات عابرة، بل باعتبارها مؤشرات عميقة على أمراض بنيوية متأصلة.
جيل كوباتش، الكاتب الإسرائيلي الذي أطلق أخيراً سلسلة من التصريحات العنصرية الداعية إلى إبادة الفلسطينيين، لم يبتدع خطاباً جديداً، بل أعاد إنتاج القاموس الدموي ذاته الذي صاغه قبله قادة الكيان ومفكروه وإعلاميوه ومؤثروه على السواء.
إن دراسة هذا الخطاب لا تكتفي بتحليل الكلمات، بل تغوص في تشريح النفسية المنتجة لها، التي باتت ترى الإبادة فعلاً تحررياً، وتحول إنكار الآخر إلى شرط جوهري لبقاء الذات.
هذه الورقة النقدية تسعى إلى تفكيك السياق النفسي، الفلسفي، والسياسي الذي أنجب هذه التصريحات، وربطها بسلسلة من المواقف المعلنة التي تعبر عن منطق بني وجود الكيان الإسرائيلي نفسه.
الإطار النظري: الإبادة بوصفها آلية دفاعية
يرتكز تحليل الخطاب الإسرائيلي، منذ تأسيس الكيان، على فهم عميق لمفهوم “الإسقاط الدفاعي”، وهو آلية نفسية يعمد عبرها الفاعل إلى تحميل الآخر المسؤولية عن مخاوفه الداخلية.
في هذا السياق، تتحول الضحية الفلسطينية إلى تهديد وجودي، ليس لأنها تشكل خطراً حقيقياً، بل لأنها تذكر المعتدي بهشاشته الوجودية وبجريمة التأسيس الأولى.
جيل كوباتش، عندما يدعو بوقاحة إلى “محو غزة”، إنما يفصح دون قصد عن احتياج نفسي ملحّ لتدمير المرآة التي تعكس صورة الجريمة المؤسسة.
يصبح القتل الجماعي إذن، في هذه الذهنية، طقس تطهير داخلي، لا مجرد عمل عسكري أو رد فعل سياسي.
تحليل خطاب جيل كوباتش
تصريحات كوباتش، التي حاول تسويقها باعتبارها “مواقف سياسية ضرورية”، جاءت محملة بكثافة هائلة من العنف الرمزي والجسدي.
لم يكتف بالدعوة إلى محو شعب بأكمله، بل صاغ خطابه بلهجة تقطع مع أي تقاليد قانونية أو أخلاقية، حتى تلك التي تدعي دولة الاحتلال الانتماء إليها.
ما يميز هذه التصريحات أنها لم تُطرح كلحظة غضب فردي أو انفعالية طارئة، بل جاءت نتيجة تخمير طويل لنفسية جماعية تعيش في حالة قلق وجودي دائم، وتحلم بسلام مستحيل يتحقق فقط عبر إفناء الآخر.
وهنا، يستعيد كوباتش إرثاً طويلاً من التصريحات المماثلة، حيث يصبح الفرد مجرد أداة لنفث العصاب الجماعي.
تصريحات أخرى في السياق ذاته: نماذج تحليلية
جيل كوباتش ليس سوى حلقة من سلسلة طويلة من التصريحات والمواقف العلنية التي تعري طبيعة المشروع الإسرائيلي.
على سبيل المثال، وصف وزير الحرب يوآف غالانت الفلسطينيين بأنهم “حيوانات بشرية” خلال العدوان على غزة، في خطاب يُظهر بوضوح النزعة إلى نزع الصفة الإنسانية عن الآخر، مما يسهل تبرير إبادته.
ولم يتوقف الأمر عند العسكر.
فقد دعا وزير الثقافة الإسرائيلي إيلي كوهين، في تصريحات إعلامية موثقة، إلى استخدام السلاح النووي ضد غزة، معلناً أن ذلك سيكون “مُبرراً أخلاقياً” لإنهاء المقاومة الفلسطينية.
إن فكرة الإبادة الجماعية، التي كان من المفترض أن تبقى ضمن كوابيس الإنسانية، تُطرح هنا كمشروع سياسي مشروع ومفتوح للنقاش في المجال العام.
على مستوى الإعلام والمؤثرين، امتلأت منصات التواصل الاجتماعي بخطابات تروج لرؤية الفلسطينيين ككائنات دونية.
مؤثرون مثل يوسي دهان ودافيد بيتان وغيرهما، يضخون بصورة شبه يومية محتوى يحضّ على الكراهية، ويصور الفلسطينيين كطفيليات يجب التخلص منها حفاظاً على “نقاء” المجتمع الإسرائيلي.
إن هذا التكرار المنهجي لا يشي بانفلاتات خطابية معزولة، بل يكشف عن قناعة متأصلة يتم تمريرها للأجيال الإسرائيلية الجديدة: الوجود الفلسطيني خطر يستحق الإبادة.
السياق الفلسفي والنفسي العميق
تُظهر هذه التصريحات بمجموعها أن المشروع الاستيطاني الإسرائيلي قد استنفد منذ زمن طويل أية شرعية خطابية خارج إطار العنف.
فبعد أن فشل في تصنيع “رواية أخلاقية” متماسكة تبرر وجوده، لجأ إلى التبرير البيولوجي البسيط: نحن هنا لأننا أقوى، والآخر يجب أن يُباد.
في علم النفس، تعرف هذه الحالة بما يسمى “نرجسية الجرح المفتوح”، حيث يرفض الفرد مواجهة حقيقة جرحه الوجودي، فيختار بدلاً من ذلك إنكار الآخر الذي يذكره بجرحه.
الكيان الإسرائيلي بكامله يعيش هذه الحالة، ويحاول أن يرمم شروخه البنيوية عبر اللجوء إلى العنف المتصاعد.
فلسفياً، تتحول مسألة العيش المشترك مع الآخر إلى معضلة وجودية لا حل لها داخل هذا الإطار الذهني.
كل محاولة لملاقاة الفلسطيني ككائن إنساني تفترض التخلي عن صورة الذات النقية، وهي صورة لم يعد الكيان قادراً على التنازل عنها دون الانهيار.
البنية الخطابية: عن السخرية القاتلة
ما يثير السخرية السوداء في هذا المشهد هو أن الكيان الذي يدّعي الانتماء إلى قيم الحضارة، والديمقراطية، وحقوق الإنسان، لم يجد وسيلة للتعبير عن ذاته إلا من خلال لغة الإبادة.
بدلاً من أن يقدم نفسه للعالم باعتباره حاملاً لمشروع حداثي، أطل برأسه العاري بوصفه كياناً تعتاش سرديته السياسية على خرافة القوة المحضة.
جيل كوباتش وزملاؤه يقدمون، دون وعي، مادة رائعة لعلماء النفس والسياسة والاجتماع لدراسة كيف يتحول المعتدي إلى أسيرٍ لجرائمه الخاصة، وكيف يفقد القدرة حتى على صناعة أكاذيب مقنعة لتبرير وحشيته.
خاتمة
إن قراءة تصريحات جيل كوباتش، في ضوء مجمل الخطاب الإسرائيلي العام، تكشف أن الكيان قد فقد حتى القدرة على الإيهام الأخلاقي.
وبات العنف والإبادة يشكلان معجمه اليومي، لا كاستثناء ظرفي، بل كبنية وجودية لا مفر منها.
هذه البنية، وقد عرت نفسها أمام العالم، تفتح أفقاً جديداً لفهم الصراع:
فليس الصراع مع كيان يبحث عن حلول سياسية، بل مع منظومة تعتبر وجود الآخر إهانة شخصية يجب محوها.
وفي هذا المعنى، لا يعود خطاب كوباتش مجرد تفصيل هامشي، بل يصبح إعلاناً صريحاً عن إفلاس مشروع كامل، يتآكل من الداخل تحت وطأة جراحه المكبوتة وكوابيسه التي لا تنام.