دكتور طارق ليساوي: غزة الصامدة فضحت كل المطبعين و أخزت كل المنسقين..

دكتور طارق ليساوي
لكل أزمة خاتمة وكل مُر سيُمر ولو طال العمر، ولكل صراع أفق وحلول ظرفية وأخرى دائمة، وإن كان الدوام كما يقول المغاربة “الدوام لله وحده”، فهذا النزاع أو الصراع العربي الإسرائيلي الممتد طيلة ثمانية عقود، سينتهي حسب الدراسات التاريخية إلى نتائج قد يكون فيها الطرف الرابح ممسكا بحقوق الغير نظرا لموازين القوى القائمة، وقد تتغير هذه الموازين لصالح الطرف الأضعف حيث يأذن الله تعالى..
مقبرة جماعية
إن ما نراه اليوم – شوال 1464 هجرية- أن غزة صارت مقبرة جماعية وان النظام العربي الرسمي لا يبالي بمن مات، أو بمن عاش، أو بمن بقي يقاوم رغم الجراح و الألام، فهذه المدينة المحاصرة و المدمرة فضحت كل المطبعين و أخزت كل المنسقين و كشفت حقيقة كل المفرطين والمتنازلين ، و هذا ما أخبرنا به مهندس معركة طوفان الأقصى الشهيد يحيي السنوار ، فلا يتناقش عاقلان ولا يتناطح كبشان في أن الأمة العربية تعيش في هذه الأيام واحدة من أسوأ مراحل تاريخها..لقد غاب عن الأمة ، ذلك الحاكم الذي يخاف الله في الرعية والذي يجعل من نفسه وقفًا خالصًا لخدمة الإسلام والمسلمين، والذي يحسب الحساب لليوم الذي سيقف فيه بين يدي الله سبحانه فيسأله عن حقوق المسلمين، حفظ أم ضيّع.
سلطة أوسلو
ومن ضمن بنية هذا النظام نجد السلطة الفلسطينية برام الله، التي تنظر لاقتحامات المسجد الأقصى وجرائم المستوطنين والصهاينة على طول الضفة الغربية وعرضها، نظر المغشي عليه من الموت، لا تُحرك ساكنا ولا تُسكن متحركا، ولعلها في انتظار ما يطبخ حاليا بين بعض القوى الأوروبية، و في مقدمتها فرنسا و باقي دول الطوق العربي حول المؤتمر الدولي لإحلال السلام وإيجاد حل “عادل ودائم ومنصف” للصراع الإسرائيلي الفلسطيني أو بالأحرى الصراع الاسرائيلي الغزاوي، وعدم السماح لمحور “ترامب- نتنياهو” باستكمال مخطط الإبادة والتهجير..
صفقة أولمرت
وبناء على ما سبق نستطيع الجزم بأن القضية الفلسطينية من زاوية النظر العربي الرسمي قد تم طيها نهائيا، وانه لا دولة فلسطينية في الأفق المنظور، وأن عدم إقامتها خيار عربي بالدرجة الأولى، وما يدفعني الى هذا القول المر وهذا الاستنتاج المفجع، هو إطلاعي على أخر التصريحات الصادرة عن رئيس وزراء الكيان الأسبق “إيهود أولمرت” ففي عام 2008 وجه أولمرت نداءا لرئيس السلطة الفلسطينية “عباس ابو مازن” يقول له بالحرف : “خلال 50 عاما القادمة لن تجد زعيما إسرائيليا واحدا يقترح ما سأقدمه الأن، وقع عليها.. وقع عليها.. ودعنا نغير التاريخ..” كان يدعوه لصفقة تتضمن حل الدولتين، وتؤدي إلى إنشاء دولة فلسطينية على اكثر من 94% من أراضي الضفة الغربية المحتلة، إن الخريطة التي قدمها أولمرت لعباس- والتي سنضعها بين يدي القراء -، أصبحت الأن محط اهتمام كبير، حيث لم يسبق “أولمرت” أن كشف عنها للإعلام، وقد قام بعرضها على نظيره الفلسطيني خلال اجتماع لهما في القدس بتاريخ 16 شتنبر 2008، وكان من الممكن أن تشمل الخطة أيضا الكتل الاستيطانية اليهودية الكبرى، وكان الأهم في خطه “أولمرت” أنها تضمنت حلا مقترحا لقضية القدس الشائكة، حيث نص المقترح على أن يكون لكل طرف الحق في المطالبة بأجزاء من المدينة لتكون عاصمة له، بينما يتم تسليم إدارة الحوض المقدس بما في ذلك المدينة القديمة ومواقعها الدينية والمناطق المحيطة الى لجنه أمناء مكونة من إسرائيل وفلسطين و السعودية والأردن والولايات المتحدة الأمريكية..
مفارقة أبو مازن
ولو نفذت الخطة لكان من المحتمل إخلاء عشرات التجمعات السكانية الإسرائيلية المنتشرة في الضفة الغربية وغور الأردن.. وعند نهاية اللقاء رفض “أولمرت” تسليم نسخة من الخريطة لمحمود عباس ما لم يقم بتوقيعها، وقد رفض “عباس” من جانبه التوقيع مبررا ذلك بأنه كان في حاجة إلى عرض الخريطة على خبرائه أولا !! ويقول “أولمرت” :” أن الرجلين اتفق على عقد اجتماع مع خبراء الخرائط في اليوم التالي مضيفا لقد افترقنا وكأننا على وشك اتخاذ خطوة تاريخية إلى الأمام لكن اجتماع اليوم التالي لم يحدث..”.
السؤال المطروح هو لماذا رفض “عباس” التوقيع على خطة يقبل اليوم بالتوقيع على أسوأ منها ب مئات المرات، خاصة وأن معظم أراضي الضفة الغربية تم التهامها عمليا؟ وهل كان “محمود عباس” في حاجه لمشاورة خبراء خرائطيين وطبوغرافيين أم في حاجة لإرادة سياسية مستقلة عن أهواء ومصالح وامتيازات شركائه داخل النظام العربي الرسمي، المستفيدة من استمرار هذا النزاع الذي يضمن لها منفذا للهروب من مواجهة مشاكلها الداخلية؟!
استمرار النظام العربي القائم واستثماره في حالة الحرب المشتعلة على طول خارطة العالم العربي، أصبح مكشوفا أمام كل المهتمين والمتتبعين لما يجرى ويدور بعواصم “سايكس-بيكو”، فتدخلات هذه العواصم في الشؤون الداخلية لبعضها البعض، وكيدها المتبادل والصراع على نفوذ إقليمي شكلي ووهمي، بتوظيف ملفات خارجية وفي مقدمتها القضية الفلسطينية التي تم استغلالها و توظيفها أبشع استغلال..
واليوم تتجه الأنظار إلى اتفاق سياسي جديد هدفه الأساس من طرف “عباس” ومن على شاكلته، هو نزع سلاح المقاومة وسيبقى الحال على ما هو عليه، ما دامت الشعوب العربية ، لم تدرك بعد أن تحرير فلسطين رهين بتحرير هذه الشعوب من قيادة لا تملك قرارها ولا تجيد اقتناص الفرص التاريخية لإنجاز الحد الأدنى من الحقوق والمكاسب لشعوبها، أخذا بعين الاعتبار طبيعة المتغيرات الدولية والإقليمية وموازين القوى على الارض..
و لا ينبغي أن يفهم من هذا الحديث، أننا ندعو لإتفاق سياسي يقدم للعدو الصهيوني تنازلات على حساب الدم والحق الفلسطيني، ولكننا أوردنا هذه الخطة المنشورة حديثا على لسان “أولمرت”، فقط لفضح النظام العربي الرسمي الذي لا يريد حلا سياسيا يخرجه هو ذاته من النفق المسدود ويحفظ له ما تبقى من ماء الوجه..
ريح سوداء
للأسف، حكام المنطقة بما فيهم السلطة الفلسطينية و رئيسها “أبو مازن” لا تحركه دوافع شعبية، و إنما دوافع ضيقة الأفق و مصالح فئوية ذات نزعة شخصية و سلطوية، وهذا النهج يعيد كل البعد عن حكام العالم في الغرب و الشرق ، بل عن حكام المنطقة في عصرها الذهبي ، فقد ذكرت كتب التاريخ أنه في زمن حكم الخليفة العباسي المهدي ، هاجت ريح شديدة سوداء على بغداد، فما كان من الخليفة المهدي إلا أن خرّ ساجدًا لله تعالى يبكي ويقول: “اللهم لا تشمت بنا أعداءنا من الأمم، واحفظ فينا دعوة نبينا محمد ﷺ. وإذا كنت يا ربي قد أخذت عامة المسلمين بذنبي فهذه ناصيتي بين يديك” ، فالخليفة المهدي قد اعتبر الريح السوداء عقوبة من الله تعالى، وأنه كان يخشى أن تكون هذه العقوبة بسبب ذنوب وآثام ارتكبها هو، فلكأنه يقول لله تعالى: “يا رب لا تعذّب أمة محمد ﷺ بذنوبي وتقصيري، وإنما عذبني أنا فهذه ناصيتي بيدك فافعل بي ما تشاء.
موقف الخليفة العباسي دليل و مؤشر على الصفاء الإيماني والرقيّ الأخلاقي واستشعار المسؤولية..
تصريح رديء
واليوم الأربعاء 23 أبريل 2025 الموافق 24 شوال 1446 هجرية ، أفاجئ بتصريح جديد للمدعو ” أبو مازن” ويا لمكر الصدف!! فلقد شاءت الأقدار الإلهية أن تثبت لهذا العبد الفقير لربه، مدى وضاعة و صفاقة و جبن و خيانة هذا الشخص، حيث وصف أبناء حركة حماس بأبناء الكلب مباشرة على الهواء داعيا إياهم إلى إطلاق سراح الرهائن بدعوى سد الذرائع على الكيان الصهيوني ..و جاء هذا التصريح الرديء و الساقط سياسيا و أخلاقيا ، في افتتاح جلسة المجلس المركزي الفلسطيني ويؤكد: “شعبنا يواجه مخاطر أقرب إلى النكبة تُهدد وجوده ونطالب حركة “حماس” بالإفراج عن الأسرى الإسرائيليين ، وتوجه عباس بعبارة نابية عندما تحدث عن حماس، فقال “كل يوم هناك قتلى، لماذا؟ لا يريدون تسليم الرهينة الأميركي، يا أبناء الكلب سلموا من عندكم وانتهوا من هذا الأمر”. ويقصد بالرهينة الأميركي، “عيدان ألكسندر “المحتجز في قطاع غزة منذ هجوم السابع من تشرين الأول/أكتوبر.
واستعرض عباس في كلمته التي استمرت لنحو الساعة، الخسائر التي لحقت بالفلسطينيين منذ بدء الحرب الاسرائيلية، عقب قيام حركة حماس بمهاجمة مستوطنات وأهداف عسكرية إسرائيلية..وقال عباس “أكثر من 200 ألف فلسطيني ما بين شهيد وجريح، من بينهم 2165 عائلة أبيدت (محيت) من السجل المدني”. ووصف عباس ما يتعرض له الشعب الفلسطيني بـ” النكبة الجديدة تهدد وجودنا”. واتهم عباس حركة حماس بارتكاب “نكبة الانقلاب” بعدما سيطرت على غزة في العام 2007، وأطاحت حكم السلطة الفلسطينية في القطاع..
اتهامات باطلة
و الواقع أن هذه الاتهامات الباطلة و المجانبة للصواب، تفندها الوقائع و الحقائق على الأرض، فقادة حماس قدموا أنفسهم و ذويهم قربانا لنصرة قضايا الشعب الفلسطيني والشواهد على ذلك عديدة و كثيرة و لا يتسع الوقت لجردها ..و هذه الاتهامات الباطلة والزائفة أثارت غضبي ، و رأيت من واجبي و واجب كل الأحرار الدفاع عن المقاومة و عن الشرعية، و لا يحق لأي أحد أن يشكك في إختيارات شعب قدم الغالي و النفيس ودفع ضريبة الدم من أجل الحرية و الكرامة ..و لعل هذا “الرئيس الغير شرعي”، نسي أو تناسى أن حماس شركاء في الوطن المغتصب، و هي تعبير عن إرادة الشعب الفلسطيني. ففي أخر انتخابات تشريعية تم تنظيمها سنة 2006 في الضفة و القطاع إكتسحت حماس نتائج الانتخابات بحصولها على 76 مقعدا من أصل مقاعد المجلس التشريعي البالغة 132..و هذا الفوز تم رفضه من قبل البلدان الغربية التي ترفع زورا و كذبا، شعار الديموقراطية وصناديق الإقتراع..
بمعنى أن الشعب الفلسطيني من خلاله تصويته على حركة حماس فهو صوت على برنامجها المقاوم، و أعلن رفضه لمسلسل المفاوضات العبثية و السريالية مع الكيان الصهيوني، كما رفض كل مشاريع تصفية و إقبار القضية الفلسطينية، و إسقاط حركة حماس و برنامجها المقاوم ينبغي ان يتم بصناديق الانتخابات و بأصوات الشعب الفلسطيني..و ليس عبر دعم المحتل الصهيوني و عدوانه الغاشم على قطاع غزة ..
شارل ديغول
و عطفا على تصريحات “أبو مازن” و من وراءه الإعلام المتصهين، لابد من التأكيد أن المقاومة حق مشروع مادام هناك إحتلال.. فما من شعب تم إحتلاله إلا ولجأ للمقاومة المسلحة لتحرير وطنه.. ففرنسا مثلا عندما تم إحتلالها من قبل ألمانيا قاومت الاحتلال بقيادة شارل ديغول..فهل يستطيع اليوم أي فرنسي أن يصف ديغول بالإرهابي و العميل والمخرب الذي ضحى بأرواح الفرنسيين ؟ و على نفس الشاكلة هل هناك صيني واحد يستطيع وصف “ماوتسي تونغ” بالإرهابي لأنه حرر الشعب الصيني من الاحتلال الياباني؟
مالكم كيف تحكمون !!
اتهام المقاومة ووصفها بالإرهاب انتهاك صارخ لمبادئ القانون الدولي الذي يقر بحق الشعوب في تحرير أراضيها المحتلة بالوسائل كافة، بما فيها المسلحة.. ومثل هذا الخلط المتعمد بين المقاومة والإرهاب لن يكون من شأنه سوى تسويغ الاحتلال وتسفيه كل مقاومة مشروعة في التاريخ الحديث، وتزوير مضمونها الوطني.. هَٰذَا بَيَانٌ لِّلنَّاسِ وَهُدًى وَمَوْعِظَةٌ لِّلْمُتَّقِينَ..
كاتب و أستاذ جامعي من المغرب.