جامعة هارفارد والتصدي لمكارثية ترامب

محمد مصطفى جامع
قَلَب الرئيس الأمريكي دونالد ترامب السياسة الداخلية والخارجية- رأسًا على عقب خلال المائة يوم الأولى بعد عودته في 20 يناير/كانون الثاني الماضي، فقد حوّل مكتبه البيضاوي إلى مسرح لسلسلة أحداث غريبة بدأها بتوقيع أكثر من 70 أمرًا تنفيذيًا في اليوم الأول مرورًا بالتهديد بضم دول وأراضٍ، فضلًا عن إيقاف المساعدات الخارجية، وتوبيخ نظيره الأوكراني فولوديمير زيلينسكي ثم تهديد القضاة وتصريحاته المناهضة لحلفاء بلاده الأوروبيين وشن حملات على الجامعات الأمريكية الكبرى لإخضاعها، وانتهاءً بإشعال حرب تجارية عالمية.
وعلى الرغم من تراجعه المؤقت عن فرض الرسوم الجمركية على دول العالم وتأجيلها لمدة ثلاثة اشهر، إلا أن الاقتصاد العالمي لازال متأثرًا، فأسعار الذهب تصاعدت بشكل كبير بينما تراجعت أسعار النفط بنحو 5 دولارات للبرميل الواحد، هذا إلى جانب الارتفاع الكبير في أسعار السلع والتي لم تنخفض بعد تعليقه العمل بالتعرفات.
وقد ذكّرت سياسات ترامب الشعبوية المتمثلة في -طرد العمال المهاجرين ومضاعفة التعرفات الجمركية واستعداء الحلفاء- بما اتخذه الرئيس الجمهوري الأسبق هربرت كلارك هوفر (1929 – 1933) من سياسات حمقاء مماثلة، أدت في نهاية المطاف إلى ما عُرف ب”الكساد الكبير” حيث انهارت الأسواق المالية وأفلست البنوك والبورصات وازدادت أعداد رجال الأعمال الذين أقدموا على الانتحار.
تسبب الكساد الكبير آنذاك في خسارة ساحقة لهوفر في الانتخابات، ولم تتحسن الأمور إلا بعد وصول الرئيس الديمقراطي فرانكلين روزفلت إلى السلطة عام 1934 الذي قام بإصدار قانون “الاتفاقيات التجارية المتبادلة”، أطلق بموجبه نمطًا جديدًا من التعريفات المخفضة.
سنخصص هذه المقالة بالتحديد للحديث عن الهجمات غير المسبوقة التي شنّها الرئيس الأمريكي على عدد كبير من الجامعات المرموقة في البلاد وكيف يمكن أن تقود تلك الإجراءات إلى سلسلة من الاحتجاجات واسعة النطاق ضد الحكومة الأمريكية.
فمنذ عودته إلى البيت الأبيض في أواخر يناير/كانون الثاني الماضي شنّ ترامب حملة منظمة وشاملة للضغط على كبرى الجامعات الأميركية، بزعم أنها أصبحت معاقل ل”اليبرالية ومعاداة السامية” لسماحها بقيام مظاهرات في حرمها تنتقد إسرائيل على خلفية حرب الإبادة التي تشنها على قطاع غزة، فهدد بقطع التمويل عنها وسحب الإعفاءات الضريبية الممنوحة لها ومنعها من تسجيل طلاب أجانب.
يشرف على تلك الحملة، التي جاءت بعد احتجاجات طلابية مستمرة مؤيدة لفلسطين في جامعات البلاد المرموقة، ستيفن ميلر نائب كبير موظفي البيت الأبيض الذي يُعد العقل المدبر للعديد من سياسات الإدارة المثيرة للجدل.
ووفقًا لتقرير نشرته “نيويورك تايمز” تلقت نحو 60 جامعة تحذيرات رسمية من وزارة التعليم بأنها قد تواجه عقوبات إن ثبت وجود ممارسات تُصنف أنها “تمييز ضد الطلبة اليهود”.
أوضح التقرير أن إدارة ترامب أنشأت ما يُعرف بـ”فرقة العمل المشترك لمكافحة معاداة السامية” من 20 مسؤولًا حكوميًا لم تصرح الإدارة بأسمائهم، ويلتقي الفريق أسبوعيا في وكالات فدرالية مختلفة لمناقشة سياسات الجامعات وتقديم اقتراحات لترامب حول “مكافحة التمييز ضد الطلبة اليهود”.
وبحسب التقرير، لم يخف ترامب ومستشاروه نواياهم بإعادة صياغة التعليم العالي، إذ أضاف كريستوفر روفو، أحد مهندسي الحملة أن “هذه المؤسسات الجامعية تتصرف وكأنها فوق القانون، ونحن نثبت الآن أننا نستطيع أن نؤذيها في نقطة حساسة، وهي التمويل”.
وبالفعل رضخت جامعة كولومبيا أمام الحملة، إذ استسلمت أمام شروط إدارة ترامب، بما في ذلك إعادة النظر في سياسات الجامعة التأديبية، وتعزيز الرقابة على أقسام دراسات الشرق الأوسط وجنوب آسيا وأفريقيا.
فيما أعلنت جامعة هارفارد رفضها لمطالب الإدارة، معتبرةً أن ما يُطلب منها يُعد “تدخلًا حكوميا مباشرًا في الشروط الفكرية” للمؤسسة، وقال رئيس الجامعة آلان غاربر في رسالة موجهة إلى الطلاب والموظفين والأساتذة إن هارفارد “لن تتنازل عن استقلاليتها أو تتخلى عن حقوقها الدستورية”.
وقد شجّع رفض جامعة هارفارد العديد من الجامعات على الاحتجاج، فقد أصدرت أكثر من 170 جامعة وكلية أميركية الأسبوع الماضي، بيانًا مشتركًا ترفض فيه التدخل السياسي للرئيس دونالد ترامب في النظام التعليمي للولايات المتحدة، وجاء في البيان: “إننا نتحدث بصوت واحد ضد التدخل الحكومي غير المسبوق والتدخل السياسي الذي يهدد التعليم العالي الأمريكي”.
وقّع البيان رؤساء خمس جامعات كبرى هي براون وكورنيل وهارفارد وبرينستون وييل، الأعضاء في “رابطة آيفي ليغ” التي تضم ثماني من أشهر جامعات البلاد، ولفتوا في بيانهم المشترك إلى أنهم “منفتحون على الإصلاح ولا يعارضون الرقابة الحكومية المشروعة .. فقط يرفضون التدخل الحكومي غير المبرر في حياة من يتعلمون ويعيشون ويعملون في الجامعات”.
وأشاروا إلى تهديد الحكومة بحجب التمويل وإلغاء الإعفاءات الضريبية موضحين رفضهم استخدام الأموال العامة المخصصة للأبحاث والدراسات كأداة للضغط من قبل إدارة ترامب.
ويأتي البيان المشترك كثاني أحدث حلقة من حلقات المقاومة ضد سياسات ترامب، حيث رفعت جامعة هارفارد الاثنين الماضي دعوى قضائية ضدّ إدارة الرئيس الجمهوري، في محاولة لإجبارها على إنهاء تجميد التمويل وسحب المطالب التي قدمتها للجامعة.
وكما أوضحنا أعلاه، كانت هارفارد هي الجامعة الأولى تحدت إدارة ترامب، بعدما رضخت جامعة كولومبيا التي امتثلت معلنة فرض قيود على التظاهرات الطلابية المؤيدة لفلسطين واتخاذ إجراءات تأديبية جديدة، كما عينت رئيسًا جديدًا وأوكلت إليه مهمة التدقيق في مناهج قسم دراسات الشرق الأوسط والمحاضرات التي تستضيف شخصيات داعمة للقضية الفلسطينية، ومنحت إدارة كولومبيا 36 شخصًا من عناصر أمنها صلاحية اعتقال الطلاب داخل الحرم وطردهم منه.
وفي نص الدعوى التي رفعتها أمام المحكمة الفيدرالية في ماساتشوستس، قالت الهيئة التمثيلية لهارفارد، إن الحكومة الأمريكية تمارس الضغط “للسيطرة على عملية صنع القرارات الأكاديمية”، فيما وصفت الجامعة الإجراءات الحكومية ضدها بأنها “تعسفية ومتقلبة”.
جدير بالذكر أن تحدي هارفرد الصريح لضغوط إدارة ترامب حظي بثناء واسع من قبل العديد من السياسيين والمثقفين باعتباره خطوة شجاعة، إذ دعا الرئيس الأسبق باراك أوباما المؤسسات الأخرى إلى أن تحذو حذو هارفرد.
وقال إريك هافيان (69 عام – كاليفورنيا) خريج كلية الحقوق بجامعة هارفارد، بعدما علم بثبات الكلية على موقفها ” كدتُ أصرخ فرحًا”. ومع أنه لم يتبرع لجامعته منذ أكثر من 20 عامًا، إلا أنه سرعان ما تبرع بمبلغ ضخم، حيث بدأت الجامعة بحشد الدعم لمعارضة قرار ترامب بين أصحاب الملايين والمليارات الذين يصرّحون بأنّ هارفارد هي جامعتهم الأم، وفقًا لصحيفة “وول ستريت جورنال”.
ومع أكثر من 1400 احتجاج نظمها معارضون لسياسات ترامب في جميع الولايات الخمسين، تحت شعار: “ارفعوا أيديكم” فضلًا عن الرسالة المشتركة لأكثر من 170 جامعة أمريكية، فإنّ تحدي جامعة هارفارد يمكن أن يشكل تحديًا جديًا ضد الرئيس الجمهوري وفريق الهواة الذي يدور في فلكه، مثل نائبه جيه. دي. فانس، وإيلون ماسك، وماركو روبيو، وراسل فوغت، وستيفن ميلر، وروبرت كينيدي الابن.
تلك المجموعة أدخلت إدارة ترامب في عداء مع جامعة هارفارد أغنى وأقوى الجامعات الأمريكية، كما أنها ورطت الرئيس المتعصب مع التنين الصيني الذي رفض التراجع عندما هدده ترامب بفرض رسوم جمركية ضخمة، بل إن الصين ردت أيضًا بفرض تعرفة رسوم جمركية ضخمة من جانبها، فضلاً عن تجميد تصدير العناصر الأرضية النادرة، التي تعتمد عليها الصناعات التكنولوجية العالية والدفاعية في الولايات المتحدة.
أخيرًا يعد موقف جامعة هارفارد توبيخًا وتحديًا شديد اللهجة لإدارة ترامب، فإذا صعّد الأخير حربه عليها فإنّ القضية ربما تتسبب في تمرد كبير ضد إدارته وقد تصبح الجامعة رمزًا للمقاومة ضد عنجهية ترامب بما تمثله من رمزية أكاديمية عالمية فهي ركيزة أساسية من ركائز القوة الناعمة للولايات المتحدة، وقد عدَّ رئيسها السابق لورانس سامرز ما يحدث من إدارة ترامب بأنه “مكارثية جديدة”، تذكيرًا بما فعله السيناتور جو مكارثي الذي كان يتهم المثقفين وأساتذة الجامعات والسياسيين والفنانين بالشيوعية في فترة “الخوف الأحمر” خلال خمسينيات القرن الماضي.
كاتب سوداني