المغرب: أي وطن نريد؟

د. عبد المجيد الإدريسي
في زحمة الشعارات، ووسط ضجيج الخطب البراقة والوعود المعسولة، أجدني، شابا طموحا، أطرح سؤالا بسيطا لكنه مرير: أي وطن نريد؟
نعيش اليوم تناقضات فاضحة بين ما نتغنى به وبين واقع يئن تحت وطأة الرشوة، والفساد، والتهميش، وإنهيار القيم. كلما توغلنا في عمق المجتمع، اكتشفنا أن الأزمة ليست فقط أزمة حاكم ومحكوم، بل أزمة مجتمع بأسره: أزمة وعي، أزمة ضمير، أزمة معنى.
لقد بنينا الطرقات والجسور، شيدنا الأبراج والموانئ، وتباهينا بالبنية التحتية، لكننا نسينا أن المجتمعات لا تنهض بالإسمنت والحديد وحدهما، بل تنهض بالإنسان. إنه الاستثمار الذي تجاهلناه: الإستثمار في بناء العقل والضمير.
ماذا فعلنا؟
صرنا ننتج عقلية الفردية والأنانية، عقلية ترى في المصلحة الخاصة أولى من العامة. تحولنا إلى مجتمع يمارس النفاق الجمعي: نلعن الفساد علنا ونمارسه سرا، ننتقد تفشي الرذيلة ونغض الطرف عنها حين تمس مصالحنا، نرفع شعار الوطن فوق الجميع ثم ندوس عليه حين تعارض مع مكاسبنا.
القاضي المرتشي، الطبيب الذي يتاجر بصحة المرضى، الشرطي الذي يبتز المواطنين، الإعلامي الذي يبيع قلمه لمن يدفع أكثر، البرلماني الذي يخون الأمانة… جميعهم ليسوا كائنات مستوردة من كوكب آخر.
إنهم نحن، أبناء هذا المجتمع، ثمرة تربيتنا وثقافتنا وأمراضنا الجماعية.
فهل نتصور إصلاح وطن دون إصلاح ذواتنا؟
هل ننتظر ثورة على الفساد بينما كل فرد يعتبر الفساد أداة للوصول السريع لما يريد؟
كيف نحلم بدولة العدل والقانون بينما نحتقر القوانين في تفاصيل حياتنا اليومية؟
أي حضارة هذه التي تعمر البنيان وتخرب الإنسان؟
إن الذين يصرخون اليوم ضد الأوضاع، كثير منهم -بكل أسف- يعارضون فقط لكي يعارضوا، لا لأنهم يملكون مشروعا بديلا أو رؤية إنقاذية. صار النقد في حد ذاته غاية لا وسيلة. انتشر تجار الأزمات الذين يصطادون في المياه العكرة، منتفعين من خراب الوعي قبل خراب الدولة.
إن معركتنا الحقيقية اليوم ليست مع شخص أو نظام فقط. معركتنا مع أنفسنا أولا. مع ذاك الإنسان المغربي الذي نريده أن يتحرر من الخوف، من الفساد، من النفاق، من اللامبالاة.
لا يكفي أن نبني مدنًا ذكية إن كانت العقول غبية.
ولا أن نحلم بمغرب مزدهر إن كانت ضمائرنا خاوية.
ولا أن نطالب بالحرية إن كنا عبيدًا لمصالحنا، أذلاء أمام المادة، خانعين للفتات.
أي وطن نريد؟
نريد وطنًا يقيس قوته بضمير أفراده لا بعدد أبراجه.
وطنا ينتصر لقيمة الحق لا لمنطق “الفرصة” والمصلحة العابرة.
وطنا يحترم الإنسان لأنه إنسان، لا لأنه غني أو صاحب نفوذ.
أي مغرب نريد؟
مغربًا نُصلحه بأنفسنا قبل أن نطلب إصلاحه من غيرنا.
مغربا نعيد فيه بناء الإنسان قبل أن نرفع صروح العمران.
نحن لسنا بحاجة فقط إلى ثورة سياسية. نحن بحاجة إلى ثورة قيمية شاملة.
ثورة تبدأ من الداخل، من القلب والعقل والضمير.
حين يصبح المغربي نزيهًا مع نفسه قبل أن يطلب النزاهة من قادته.
حين يصبح المغربي مواطنا كامل المواطنة، مسؤولًا عن مستقبله كما عن وطنه.
عندها فقط… سيتغير كل شيء.
كاتب مغربي