د. عبدالناصر سلم حامد: حين تقتل الكلمات: خطاب الكراهية في السودان وشبح رواندا

د. عبدالناصر سلم حامد
في السودان، أصبحت الكلمة أكثر فتكاً من الرصاصة. فقد أصبح المنشور الواحد قادراً على هدم الوطن بكامله. في ظل الصراع الذي يعصف بالبلاد منذ عام 2023، لم تعد ساحات المعارك هي الوحيدة التي تحدد مصير الناس. اليوم، تطير الكلمات عبر الشاشات كقنابل موقوتة، تبث الكراهية، تغذي التحريض، وتفكك الروابط المجتمعية والوطنية المتبقية. ما كانت تحمل من رسائل سلام أو دعوات للحوار، تحولت اليوم إلى نداءات للانتقام وشعارات للإقصاء.
تشير التقارير إلى أن أكثر من 45% من المحتوى المتداول عبر وسائل التواصل الاجتماعي أثناء الحرب كان مضللاً أو تحريضياً، مع تسجيل زيادة بنسبة 60% في المواد المحرضة بين عامي 2023 و2025، وفقاً لتقرير Digital Rights Frontlines. ومع تراجع الإعلام التقليدي وفقدان الثقة في المصادر الرسمية، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي هي الحاضنة الأساسية للكراهية والانقسام، غائبةً بذلك الفواصل بين الخبر والشائعة، وبين الرأي والتحريض.
في علم الاجتماع، تميل المجتمعات التي تمر بصراعات حادة إلى “تشييء الآخر”، حيث تتحول الجماعات المخالفة من كائنات بشرية إلى رموز تهديد. كما شرح بيير بورديو، تسهل هذه العملية ممارسة العنف لاحقاً لأن الإنسان لم يعد يرى خصمه كإنسان، بل كعدو يجب القضاء عليه. وعندما تُجرّد جماعة من إنسانيتها عبر الإعلام أو خطاب الكراهية، يصبح قتلها أو إقصاؤها في نظر المتلقي مسألة دفاع عن النفس، وليست جريمة.
خطاب الكراهية لا يظهر فجأة، بل يُصنع عبر بث الخوف من الآخر، ثم شيطنته، ثم تبرير العداء ضده، وأخيراً تطبيع العنف باعتباره دفاعاً مشروعاً. في بيئة يغلب عليها الفقر والخوف وانعدام الثقة، تصبح الكراهية لغة يومية مقبولة بل ومطلوبة اجتماعياً. “في زمن الأزمات، لا يقتل الرصاص وحده… بل تقتل الكلمة أولاً.” هذه ليست مبالغة أدبية، بل حقيقة اجتماعية تدعمها تجارب التاريخ.
كما أشعلت الكلمات مذابح رواندا، تنذر الكلمات اليوم بإشعال صراع لا يقل دموية في السودان. في عام 1994، لعب الإعلام التحريضي دوراً مركزياً في إبادة أكثر من 800 ألف شخص خلال مئة يوم. عبر إذاعة “راديو الألف تلة”، بثت الروايات الممنهجة التي زرعت الكراهية وصورت التوتسي كتهديد وجودي. كانت الكلمات هي الرصاص الأول قبل أن تخرج البنادق من أغمادها.
في السودان، رغم اختلاف الوسائل، تتكرر الأنماط نفسها التي قادت إلى الكارثة في رواندا. فبدلاً من الإذاعات، هناك منصات رقمية ضخمة تبث الكراهية بشكل دائم وسريع. خلال الحرب، انتشرت الشتائم العرقية والمناطقية علنًا عبر وسائل التواصل الاجتماعي، حتى أن بعض الشخصيات العامة استخدمت ألفاظاً عنصرية في بثوث مباشرة أو عبر تغريدات مفتوحة. هذا السلوك فتح المجال أمام موجات واسعة من التنمر العرقي، وحول الإهانة اللفظية إلى سلوك يومي مقبول. من خلال تكرار الشتائم الجماعية، يتحول العنف الرمزي إلى تمهيد حتمي للعنف الفعلي، حيث يُنتزع الطابع الإنساني عن الجماعات المستهدفة، مما يجعل الاعتداء عليها لاحقاً يبدو مقبولاً ومبرراً.
من منظور علم النفس الاجتماعي، وخاصة عبر “نظرية الهوية الاجتماعية” التي طورها هنري تاجفيل، تميل الجماعات تحت الضغط إلى تقسيم العالم إلى “نحن” و”هم”، مع تضخيم الفروقات مع الآخر وتصغير القواسم المشتركة، مما يعزز الشرخ المجتمعي ويضاعف احتمالات العنف. وهكذا يصبح الخلاف السياسي أو المناطقي ذريعة جاهزة لتبرير العنف العرقي، بدلاً من معالجة القضايا سلمياً.
بحسب تقرير Digital Rights Frontlines، تجاوز المحتوى التحريضي المتداول على وسائل التواصل السودانية نسبة 60% خلال عامين فقط. ومع انهيار البنية الإعلامية التقليدية، أصبحت الأكاذيب والشائعات تغزو العقول، حتى بات البعض غير قادر على التمييز بين الحقيقة والدعاية. وهذا يفاقم من حالة الفوضى، ويجعل من الصعب العودة إلى النقاش العقلاني أو الحلول السلمية. في هذه البيئة المتوترة، لا تصبح المعلومة دقيقة فحسب، بل أداة مؤثرة في تشكيل مشاعر الكراهية والتحريض ضد الآخر.
في بعض الأحيان، قد يصبح التوجه نحو الاستقطاب العرقي أو المناطقي مُغريًا للعديد من الأطراف، خاصة في زمن الأزمات. فمن السهل على الأفراد أو الجماعات أن يعبروا عن غضبهم من خلال تجريد “الآخر” من إنسانيته، وتحويله إلى هدف شرعي. على سبيل المثال، يمكن الإشارة إلى العمليات الإعلامية التي تعزز التفرقة بين الجماعات المختلفة، سواء كانت عرقية أو دينية أو مناطقية، مما يجعل الحقد والإقصاء أكثر قبولًا في الوعي الجمعي. الأمر الذي يدفع المجتمع إلى الوقوع في فخ تأجيج الصراعات المتواصلة.
من المثير للقلق أن خطورة خطاب الكراهية تكمن في تأثيره المستمر على الوعي الجمعي. فكما أن الكراهية لا تتراجع بسهولة، فإن هذه الحمولات الإعلامية الثقيلة تزرع انقسامات يصعب تجاوزها حتى بعد توقف الصراع. في السودان، تظهر ضرورة المعالجة الجذرية لهذا النوع من الإعلام، حيث ينبغي أن يتم العمل على إعادة هيكلة الخطاب الإعلامي، سواء عبر القنوات الرسمية أو عبر منصات التواصل الاجتماعي.
الدرس الذي يجب أن نتعلمه من رواندا هو أن خطاب الكراهية يمكن أن يصبح قوة تدميرية تفوق قدرة الأنظمة على السيطرة. فالتحريض ضد فئة معينة من الناس يمكن أن يتحول إلى عمليات إبادة جماعية إذا لم يتم التعامل معه بحذر وحزم. على السودان أن يتجنب السقوط في هذا الفخ، ويجب أن يتم نشر الوعي بأهمية الكلمات في تشكيل واقعنا. لابد من إدراك أن التضليل الإعلامي والتحريض على الكراهية لا يقتصر على مجرد اختلاف في الآراء، بل هو عملية تحويل خصوم سياسيين أو اجتماعيين إلى “أعداء” يمكن أن يبرر استهدافهم.
التاريخ يعلمنا أن الإعلام التحريضي لا يكتفي بإشعال الفتن، بل يحول الكراهية إلى إطار مرجعي دائم في الوعي الجمعي. لم تنجُ رواندا إلا بعد أن واجهت خطاب الكراهية بجذرية: تم محاكمة الإعلاميين المحرضين كمجرمي حرب، وأُطلقت برامج لإعادة بناء السردية الوطنية. في حالة السودان، من الضروري أن يبدأ المجتمع الدولي والمحلي في معالجة هذه الظاهرة عبر محاكمة الفاعلين ومحاسبتهم، وتفعيل دور وسائل الإعلام في نشر رسائل الوحدة والشفاء. لا بد من تكاتف جميع الأطراف المعنية، سواء على المستوى الحكومي أو المجتمعي، لمكافحة هذا الخطاب المسموم.
يجب أن تشمل الجهود العالمية المبذولة لمكافحة خطاب الكراهية في السودان برامج تثقيفية لتوضيح خطر هذا الخطاب وأثره على التماسك المجتمعي. فضلاً عن ذلك، يجب أن تكون هناك مبادرات لإصلاح الإعلام الوطني بشكل يمكن أن يُعتمد عليه في بناء الثقة بين جميع مكونات الشعب السوداني. الإعلام الذي يروج للوحدة والتسامح ويعزز من بناء هوية وطنية جامعة يجب أن يكون جزءاً من عملية السلام الدائمة التي تحتاج إليها البلاد في المرحلة المقبلة.
في الختام، لا يمكن لمجتمع يعاني من أزمة مثل تلك التي يمر بها السودان أن ينجو من تأثيرات خطاب الكراهية إلا إذا تضافرت جهود كافة الأطراف لمحاربته في جذوره. إن الكلمات قد تكون أقوى من الرصاص إذا ما استخدمت لزرع الكراهية، ولكنها أيضاً قد تكون أقوى من الرصاص إذا ما استخدمت لبناء السلام والاحترام المتبادل.
كبير الباحثين ومدير برنامج شرق أفريقيا والسودان فوكس السويد