عبدالقادر علي معلم عبدالله: الصومال: غياب الثقافة السياسية الوطنية وأثره على استقرار الدولة: قراءة تحليلية نقدية

عبدالقادر علي معلم عبدالله
تُعد الثقافة السياسية الوطنية المرتكز القيمي والمعرفي الذي تبنى عليه علاقة الفرد بالدولة الحديثة، وهي بذلك ليست مجرد فهم سطحي للنظام السياسي، بل تمثل وعيا عميقا بالمواطنة والمسؤولية والمصلحة العامة، وتُحدد مستوى الوعي العام بالحقوق والواجبات، ومفهوم الشرعية، وطرق المشاركة في صناعة القرار. وعندما تغيب هذه الثقافة، تتفكك الهويات الوطنية لصالح الهويات الفرعية، ويضعف الحس الشعور بالإنتماء الوطني ، مما يُحول الدولة إلى بنية هشة، ويجعل النظام السياسي عاجزًا عن تحقيق الاستقرار أو التوافق الوطني.
في الحالة الصومالية، تُواجه الدولة منذ انهيار النظام المركزي في 1991م أزمة ثقافية سياسية عميقة، تتمثل في غياب الوعي الوطني الجامع، واستمرار النفوذ العشائري والمناطقي كمصدر رئيس للشرعية السياسية. وقد أشار تقرير صادر عن “المعهد الدولي للديمقراطية والمساعدة الانتخابية” إلى أن الصومال يعاني من “فراغ ثقافي سياسي وطني”، تتجلى مظاهره في التعامل مع الدولة كمصدر للغنيمة لا ككيان جامع، وفي ممارسة السياسة بوصفها أداة للاستحواذ لا وسيلة للمشاركة.
أبرز مظاهر غياب الثقافة السياسية الوطنية في الصومال
العملية السياسية تمارس كطقس قبلي لا كاستحقاق وطني حقيقي
تمثل المشاركة السياسية مقياسا حيويا لمدى ترسّخ الوعي المدني في المجتمع. لكن في الصومال، لم تتبلور بعد فكرة المشاركة السياسي كممارسة مدنية تستند إلى الإرادة الشعبية الحرة. بل تحولت إلى طقس قبلي تُديره شيوخ العشائر ضمن آلية “المحاصصة”، مما يُفرغها من مضمونها السياسي الحقيقي، ويُعيد إنتاج التوازنات التقليدية، ويحول دون ظهور طبقة سياسية مدنية تمثل الوطن لا القبيلة.
تعاني الساحة الحزبية الصومالية من غياب الأحزاب الوطنية الجامعة، حيث تهيمن عليها كيانات سياسية هجينة لا تستند إلى رؤية فكرية واضحة، بل تتشكل من مزيج من المصالح العشائرية والانقسامات المناطقية، ما يجعلها منشطرة داخليًا وغير قادرة على تمثيل مشروع وطني موحد. فغالبية الكيانات الحزبية المزعومة، تأسست على أسس عشائرية أو مناطقية ضيقة، وهو ما يجعلها أدوات للصراع أكثر من كونها أدوات للتنمية أو التمثيل الشعبي. وبذلك تفقد السياسة وظيفتها كأداة لبناء الدولة، وتتحول إلى امتداد للانقسام الاجتماعي.
تغريب النخب وتعدد الولاءات
تُعد ظاهرة النخب السياسية المُرتبطة بالمهجر أو الحاملة لجنسيات مزدوجة إحدى أبرز مظاهر الانفصال المنهجي بين القيادة السياسية والواقع الصومالي المحلي. إذ إن غياب هذه النخب عن البيئة الاجتماعية والثقافية التي تُفترض فيها صناعة القرار، يؤدي إلى ضعف تفاعلها مع احتياجات المجتمع الفعلية، ويُنتج فجوة نفسية وثقافية تعيق الانخراط الجاد في بناء الدولة. وتؤكد عدد من التقارير الدولية أن هذا الانفصال المعنوي يُفضي إلى قرارات سياسية تفتقر للواقعية، وتُهيمن عليها تصورات مستوردة لا تعبّر عن تعقيدات الداخل، مما يضعف القدرة على تطوير حلول محلية فعّالة.
وقد أشار تقرير مجموعة الأزمات الدولية إلى أن “الكثير من صناع القرار في الصومال يخضعون لتأثيرات خارجية تتعارض مع مصلحة الداخل”، مما أسفر عن تشتت مراكز القرار، وضعف الإرادة السياسية الوطنية.
نظام “4.5” كأداة لإعادة إنتاج التفكك
اعتماد الصومال على نظام المحاصصة العشائرية (4.5) في تقاسم السلطة يُعد من أبرز أدوات تقويض الثقافة السياسية الوطنية، حيث يُلغى معيار الكفاءة لصالح الانتماء العشائري، مما يُنتج مؤسسات دولة لا تعمل لصالح الشعب، بل تخدم مصالح ضيقة،مما يُضعف وحدة القرار السياسي ويُكرس التبعية والهشاشة.
قراءة نقدية وتأصيل شرعي
في الرؤية الإسلامية، ترتكز الدولة على العدل، والمصلحة، والشورى، والمساواة. وقد أكد شيخ الإسلام ابن تيمية أن “السياسة العادلة جزء من الدين”، بمعنى أن إدارة شؤون الأمة يجب أن تتم وفقًا لمقاصد الشرع القائمة على المصلحة العامة. وحين تُستبدل هذه القيم بالعصبية القبلية، فإن الدولة تفقد مبرر وجودها الشرعي، وتُصبح أداة للتفكك لا للوحدة. أما ابن خلدون فقد حذّر من تحول الولاء من الدولة إلى القبيلة بقوله: “إذا فسد الوازع الديني، وحلّت العصبية محلّه، انهارت الدولة من داخلها”. وهذا ما يحدث فعليًا في النموذج الصومالي المعاصر، حيث تُمارس السياسة بوصفها غنيمة، لا مسؤولية وطنية.
رأي الكاتب وتحليله السياسي ،
يُعد غياب الثقافة السياسية الوطنية أخطر مهدد للاستقرار السياسي والاجتماعي في الصومال، لأن الدولة التي لا تُنتج وعيًا سياسيًا موحدًا، لن تُنتج مشروعًا وطنيًا جامعًا. المواطن الذي لم يُربَّ على الولاء للدولة، لن يدافع عنها في لحظة الخطر، ولن يُشارك في صياغة مستقبلها.
ومن هنا، فإن أزمة الصومال ليست فقط في “نظام الحكم”، بل في “عقلية الحكم”، وفي غياب التصور الثقافي المؤسس للدولة.
لأنّ التحول الحقيقي لا يبدأ من إعادة توزيع المناصب أو تعديل الدستور فقط، بل من تأسيس ثقافة سياسية تُؤمن بفكرة الدولة وتُعلي من شأن الصالح العام على حساب المصالح الضيقة. وهذا المشروع لا يمكن أن ينجح إلا إذا تكاملت جهود التربية والتعليم، والإعلام، والدين، والتشريع.
مقترحات عملية لإعادة بناء الثقافة السياسية الوطنية
في سبيل ترسيخ ثقافة سياسية وطنية تؤسس لاستقرار الدولة الصومالية، يقترح الكاتب حزمة من الإجراءات العملية ذات الأبعاد التربوية، السياسية، والإعلامية، تتلخص فيما يلي:
• إدراج التربية السياسية الدستورية ضمن المناهج التعليمية، بحيث تتضمن المواد الدراسية مضامين تعزز قيم المواطنة، والانتماء للدولة، وفهم آليات النظام السياسي، وتُرسخ في وعي الناشئة فكرة الدولة ككيان جامع يتجاوز العصبيات الفرعية.
• إصلاح الإطار القانوني المنظم لتأسيس الأحزاب السياسية، وذلك عبر فرض اشتراطات قانونية تُلزم الأحزاب بالانتماء الوطني، ومنع تأسيسها على أسس عشائرية أو مناطقية، وربط التمويل والدعم الحكومي بمدى الالتزام بالخطاب السياسي الجامع وبرامج التنمية الوطنية.
• إعادة هيكلة النظام الانتخابي، من خلال اعتماد نموذج تدريجي يُفضي إلى التخلي عن نظام “4.5” العشائري، وتفعيل آليات الانتخاب الشعبي المباشر، بما يُعزز من قيمة الصوت الفردي، ويمنح المواطن الحق الفعلي في اختيار ممثليه بناءً على الكفاءة لا الانتماء.
• إطلاق شراكة استراتيجية مع المؤسسات الدينية والإعلامية بهدف تعميق وعي المواطنين بمفهوم الدولة في ضوء الشريعة الإسلامية، ودفع الخطاب العام نحو نبذ العصبيات، وتعزيز مفاهيم الوحدة، والشرعية السياسية، والهوية الجامعة.
• تسعى هذه المقترحات إلى بناء تصور متكامل للثقافة السياسية بوصفها ركيزة لبناء الدولة، لا مجرد مكون ثانوي في المشهد العام، وتنطلق من الإيمان بأن إصلاح السياسة يبدأ بإصلاح العقل الذي ينتجها.
كاتب ومحلل سياسي متخصص في قضايا القرن الإفريقي
[email protected]