ما أرخص الدم العربي!

ما أرخص الدم العربي!

د. فايز أبو شمالة
بكل ثقة واطمئنان وأريحية يمارس العدو الإسرائيلي المحرقة وحرب الإبادة الجماعية ضد أهل غزة والضفة الغربية، وكأن العدو الإسرائيلي هو صاحب الولاية المطلقة على رقاب الشعب الفلسطيني، وكأننا في زمن العبيد والأسياد في القرون الوسطى؛ العدو الإسرائيلي هو السيد صاحب الحق المطلق في التصرف بأرواح عبيده الفلسطينيين، ومن حق السيد أن يصادر ممتلكات عبيدة، وتجريدهم من أموالهم، وحرمانهم من أرضهم، واعتقالهم، وتعذيبهم، وتسخريهم عبيداً يحرثون مزارعه، ويقدسون الشيكل.
لم يتجرأ العدو الإسرائيلي على أرواح الفلسطينيين ومصير أطفالهم إلا بعد أن قرأ الواقع العربي بشكل جيد، وأدرك أن لا حول لأمة العرب ولا قوة، ولا جاهزية ولا قدرة على مواجهة جيشه الفتاك العنيف، ولا استعداد لجيوشهم لكي تهش على قواته بعود ذره، فراح يمارس الإرهاب بكافة أشكاله وأنواعه جهراً وعلانية وأمام الفضائيات، دون أن يعمل حساب لا لمزاج الشارع العربي، ولا لردة فعل الحاكم العربي.
خنوع الساحة العربية للعدو الإسرائيلي لم تأت صدفة، ولا من فراغ، فعدونا الإسرائيلي من الدراية والذكاء والفطنة والخبث الذي مكّنه من ترتيب الساحة العربية وفق هواه، وبما ينسجم وأطماعه في المنطقة، وأهدافه الاستراتيجية والسياسية، وعمل على ذلك سنوات طوال، وتدخل سراً وعلانية في الكثير من الانقلابات العسكرية، والتحركات القمعية ضد الشعوب، حتى اطمأن إلى الحالة العربية، وقبض على عنق القرار بنواجذه، وراح يسخر مقدراتها لخدمته، مستنداً على قاعدة تدمير الأمة العربية شرط لصعود الصهيونية، وأن المزيد من الخراب والدمار والخلاف والتشتت بين الشعوب العربية هو الضامن الأكيد لاستقرار كيانه، وتحقيق أمنه، ونمو اقتصاده، وصعوده قوة يرهبها القريب والبعيد.
وقوع الأرض العربية في قبضة الصهاينة وحلفائهم شرط لوجود هذا الكيان وبقائه، هذ ما تحدثنا به كتب التاريخ، والتي توثق بأن أعداءنا لم يقيموا أي مستوطنة على أرض فلسطين إلا بعد أن اطمئنوا إلى مصر، وضمنوها تدور في فلكهم من خلال الاستعمار البريطاني سنة 1882، في تلك السنة من الاطمئنان والثقة، أقام أعداؤنا أول مستوطنة يهودية على أرض فلسطين؛ مستوطنة بتاح تكيفا.
فلم يكن يجرؤ أعداؤنا على الشروع في استيطان فلسطين إلا بعد أن أمنوا ظهرهم، وكفوا شر مصر وشعبها عن مطاردتهم، ولمن أراد الزيادة في الاطلاع والمعرفة بهذا الشأن، يمكنه قراءة تاريخ رئيس وزراء بريطانيا اليهودي بنيامين دزرائيلي، الذي خدع مجلس الوزراء البريطاني، واشترى أسمهم الخديوي إسماعيل في قناة السويس، 1868، بتمويل من خزينة الملياردير اليهودي روتشلد، والهدف من ذلك هو خلق الذرائع، والمبررات لاحتلال أرض مصر 1882، بحجة الدفاع عن مصالح بريطانيا في قناة السويس.
ولم يكتف أعداؤنا على تشجيع الاستعمار البريطاني والفرنسي المباشر للبلاد العربية، بل عملوا على عزل فلسطين عن بقية البلاد العربية، وفق اتفاقية سايكس بيكو، واهتموا بأن تظل الأرض العربية مربط خيل الحكومات الأوروبية والأمريكية، دون الأخذ بعين الاعتبار مصالح الشعوب العربية، التي أشغلها العدو بنار الفتن، بعد أن أشعل فيها القطرية والقومية والصراعات الداخلية، التي حفزت أمريكا والأوروبيون على مواصلة العدوان على شعوب المنطقة، فكان العدوان الثلاثي على مصر 1956، وكان العدوان الإسرائيلي المدعوم بطائرات الميراج الفرنسية 1967، وكان العدوان الأمريكي المباشر على بيروت 1983، وكان العدوان الأمريكي المباشر على ليبيا 1985، ثم العدوان الأمريكي على العراق تحت الرعاية الإسرائيلية 1991، ثم العدوان الأمريكي الغربي على العراق ثانية 2003.
لقد شق الإرهاب الأمريكي والغربي على البلاد العربية الطريق للإرهاب الإسرائيلي، وشرع لهم البوابة ليضاعفوا في عدوانهم على غزة، ولا أبالغ لو قلت: إن الهجوم الأمريكي على العراق وتدمير مقدراته كان المقدمة للهجوم الإسرائيلي على أهل غزة، وأن تدمير ملجأ العامرية في العراق على رؤوس المدنيين، كان المدرسة التي تخرج منها قادة إسرائيل وهم  يدمرون المستشفى المعمداني في غزة على رؤوس المرضي والنازحين، وما تدمير مدينة الفالوجة في العراق إلا شكل آخر لتدمير بيت حانون شمال قطاع غزة، وما ذبح عشرات ألاف الضحايا في مدينة الموصل ومدينة دير الزور بحجة محاربة تنظيم القاعدة إلا المقدمة لتدمير غزة بحجة محاربة حركة حماس، وما ذبح مدينة حلب السورية وتهشيم معالمها بعيداً عن تدمير خان يونس ورفح، وما تدمير الصومال وليبيا وذبح الأف المواطنين في اليمن والسودان بعيداً عن محرقة قطاع غزة، فالعدو الإسرائيلي الذي أسهم على مدار السنين في إشعال الفتنة في البلاد العربية، وفي تأجيج الصراعات الطائفية، وفي تشجيع أمريكا وحلفائها على تدمير مقدرات أكثر من بلد عربي إلا مقدمة لانهاك الأمة العربية، وتركها تلعق جراحها، في الوقت الذي يتفرغ فيه العدو الإسرائيلي إلى تصفية القضية الفلسطينية، من خلال التطبيع، وذلك بعد تركيع الكثير من الأنظمة، وجرها مخزومة لتدور في فلكه.
لقد وثق العدو الإسرائيلي كل أشكال العنف الأمريكي في البلاد العربية، بل وشجع عليه، ليكون له الغطاء والذريعة، وهو يمارس الإرهاب نفسه على أرض غزة والضفة الغربية، ليتساوى المواطن العربي اليمني الذي قصفت أمريكا فوق أرضه 800 هدف إنساني، بالعربي الفلسطيني الذي قتل الصهاينة فوق أرض غزة 18 ألف طفل، وقتلوا 12 ألف امرأة، ومسحوا 5000 أسرة من السجل المدني، ولم يتركوا لعدد 5000 أسرة أخرى إلا شخصا واحداً ليشهد على الإرهاب الإسرائيلي المدعوم من أمريكا.
الإرهاب الإسرائيلي ضد اهل غزة والضفة الغربية ليس منقطع الجذور، إنه الامتداد للإرهاب الأمريكي المتواصل، والذي يغطي شرق البلاد العربية ويبسط أحقاده على غربها، وهذا هو الإرهاب العالمي المتناغم مع أكذوبة الدفاع عن النفس، ومحاربة الإرهاب العربي الإسلامي، والذي يبرر قتل الأبرياء، ويبرر ذبح النساء، وإكمال السيطرة على أرض فلسطين، لتأكيد الهيمنة على كل الشرق الأوسط بالقوة العسكرية، كما أكد على ذلك علانية رئيس الوزراء الإسرائيلي نتانياهو.
كاتب فلسطيني/غزة