ماذا وراء تسريب التسجيل الصوتي للرئيس عبد الناصر في هذا الوقت ومن المستفيد؟

ماذا وراء تسريب التسجيل الصوتي للرئيس عبد الناصر في هذا الوقت ومن المستفيد؟

 

زياد شليوط
ضجت العديد من وسائل الاعلام وصفحات التواصل الاجتماعي في الأيام القليلة الماضية وانشغلت بشكل يدعو للدهشة بتسجيل صوتي للرئيس الراحل جمال عبد الناصر، أثناء لقاء مصغر جمعه بالرئيس الليبي الراحل معمر القذافي، يعود تاريخه إلى الرابع من آب 1970 أي قبل أسابيع على وفاة عبد الناصر في 28 أيلول من نفس العام.
وفى هذه المحادثة الصوتية يوجه عبد الناصر انتقادات حادة لكل من الحكومات السورية والعراقية والجزائرية وبعض المنظمات الفلسطينية لأنها تمارس عليه مزايدات كثيرة، وتطالبه بمحاربة إسرائيل، من دون أن تفعل هي أي شيء.
بعد الكشف عن هذا التسجيل أصدرت إدارة مكتبة الإسكندرية بيانا وتحدث مديرها لوسائل اعلام، تنصلوا فيها من مسؤوليتهم عن نشر التسجيل وأكد مدير المكتبة أن التسجيل ليس جديدا وهو موجود في سجلاتها منذ 20 عاما. وهذا ما أيده المهندس عبد الحكيم جمال عبد الناصر، في رده على الضجة المفتعلة، وهنا لا بد من طرح السؤال، بيت القصيد: لماذا جرى نشر هذا التسجيل على نطاق واسع في هذا الوقت، ومن هو المستفيد من ذلك؟
قبل الإجابة عن السؤال المركزي لا بد وأن نتطرق الى بعض الظواهر التي رافقت نشر التسجيل، وخاصة ما شاهدناه على بعض الفضائيات من استخفاف بالموضوع وتسخيفه، وحركات بعض المذيعين وخاصة المذيعات، كما فعلت احداهن حيث عرضت الموضوع وهي تتراقص جيئة وذهابا في الاستوديو وكأنها في حفل استعراضي، وما حاولت تأكيده مذيعة أخرى بصوتها الدرامي – الاغرائي، من ان الحقيقة تبقى في صوت عبد الناصر، ما شاء الله على اكتشافها العظيم! لكن نترك تلك الاستعراضات الهزلية والسخيفة للموضوع لأنها لا تقدم ولا تؤخر به الا بمدى تأثيرها على “الريتينغ”.
ولكي نفهم حقيقة ما جاء على لسان عبد الناصر علينا أن نعود إلى تلك الفترة الزمنية الحساسة. يعود تاريخ المحادثة كما ذكرنا في البداية، الى مطلع آب 1970، أي بعد موافقة عبد الناصر على مبادرة وزير الخارجية الأمريكية آنذاك، وليام روجرز لوقف اطلاق النار بين مصر وإسرائيل، حيث خاضت القوات المسلحة المصرية معارك عديدة بعد النكبة، وعرفت تلك المعارك باسم “حرب الاستنزاف”، التي أوقعت فيها مصر خسائر جسيمة في صفوف الجيش الإسرائيلي. وكان هدف عبد الناصر الجوهري من تلك الموافقة، وهو تحريك حائط الصواريخ إلى قناة السويس، لمواجهة الغارات الجوية الإسرائيلية على العمق المصري. ثم إن مبادرة روجرز التي قبلها ناصر تنص على الالتزام بقرار مجلس الأمن رقم 242 الداعي لانسحاب إسرائيل من الأراضي العربية المحتلة والعودة لخطوط 4 حزيران 1967، وتخيير الفلسطينيين بين العودة أو التعويض. “فهل عندما يقبل عبد الناصر مبادرة تنص على هذه المبادئ يكون خائنا ومفرطا كما صورته الدعاية المضادة من بعض الدول والحكومات والمنظمات العربية؟” كما قال نجله عبد الحكيم؟
من المعروف أن عبد الناصر تعرض لحملة ظالمة من بعض الأطراف العربية وخاصة المنظمات الفلسطينية التي ذهبت إلى حد تخوينه – وبعد وفاته أدركت مدى الخطأ الذي ارتكبته واعترفت به – مما أثر سلبا على عبد الناصر، وهو الذي كان يستعد للحرب ويبني الجيش المصري بأحدث المعدات والتوعية والتثقيف، لكي يخوض حرب تحرير الأراضي التي احتلت في العام 1967. من هنا علينا أن نفهم السياق الذي قيل فيه كلام عبد الناصر، وسبب غضبه من تلك الأطراف التي كانت تعتبر الأقرب إليه وحليفته، لكنها أبت أن تتفهم هدفه وخطته وراحت تزاود عليه بالشعارات المعروفة. ومما يسجل لعبد الناصر، إعلانه بأنه من حق الفلسطينيين أن يعارضوا المبادرة، وأنه يتفهم معارضتهم وانتقادهم، لكن عندما اتهموه بالخيانة والتخاذل، لم يعد بامكانه احتمال ذلك.
وأمر آخر يتوجب علينا معرفته لإزالة اللبس عن كلام عبد الناصر، هو أن اجتماع عبد الناصر بالقذافي، المشار اليه، لم يكن الوحيد أو اليتيم، انما هو اجتماع في سلسلة اجتماعات عقدها الزعيمان بينهما في تلك السنة، وهي السنة الأولى على قيام ثورة الفاتح من سبتمبر 1969 في ليبيا بقيادة معمر القذافي والضباط الأحرار معه، التي أطاحت بالملكية وجاءت متأثرة بعبد الناصر وخطه العروبي. هذا الأمر أمده عبد المجيد فريد، أمين عام رئاسة الجمهورية العربية المتحدة منذ عام 1959 – 1970، في كتابه “من محاضر اجتماعات عبد الناصر العربية والدولية.. 1967-1970″، حيث أكد في الفصل الثامن من كتابه ما يلي: “تتابعت اجتماعات معمر القذافي ومجلس الثورة مع عبد الناصر، سواء على أرض مصر أو على أرض ليبيا”. (ص209). وأضاف أن عشرات الاجتماعات بل المئات تمت بين الوزراء من البلدين. ومن الطبيعي أن يتخلل تلك الاجتماعات أحاديث فضفضة ومكاشفة أخوية بعيدا عن الاعلام والآذان الاستخباراتية.
وإذا كان لا بد من الاقتباس، لماذا يغفل من يؤيد ما قاله ناصر للقذافي في اجتماعهما في شباط 1970 (أي قبل نصف عام على الاجتماع المذكور) ما قاله عبد الناصر للقذافي وهو يؤكد على أن “ميعاد المعركة متوقف تماما على توفر التعادل الجوي، والا تصبح المعركة بالنسبة لنا معركة انتحارية.” ولم يتأخر عن تحديد الموعد بناء على رؤيته وتقديراته التي ثبت صحتها “لا بد ان نبدأ المعركة ونعبر القناة العام 1970 أو على الأكثر خلال 70/1971”. (ص207-208). فقد بات معروفا أن الجيش المصري كان على جهوزية للمعركة، لكن القدر خطف عبد الناصر في ذلك الوقت، فتأجل تنفيذ القرار ثلاث سنوات.
ونصل بالتالي إلى السؤال المركزي والذي يؤدي إلى أن ندرك، بأن صاحب المصلحة الأولى والأخيرة في ترويج التسجيل المذكور هي السلطة المصرية الحاكمة اليوم، وذلك كي ترفع عنها حملات النقد ومطالبتها بفتح الحدود، وعلى الأقل المعابر بينها وبين قطاع غزة المحاصر، وإدخال المساعدات الإنسانية اليه وإخراج مئات المصابين والجرحى للعلاج، هذا ناهيك عن دفاعها عن نفسها بأنه ليس بمقدورها الحرب، ولا أدري اذا أحد طالبها بذلك. وهل هناك حجة تستند إليها أقوى من أن يقال بأن عبد الناصر رفض مطلب الحرب، متجاهلين بغباء اختلاف الواقعين من حيث الزمان والمكان.
وختاما.. إن من يجهل جمال عبد الناصر، ولم يرافق ويدرس تاريخه، ومن يكن العداء له ولنهجه، يمكن أن يفاجأ، أو يدعي أنه وجد شيئا جديدا ومثيرا في التسجيل المتداول، لمحادثة عبد الناصر والقذافي. لا جديد في سماء عبد الناصر في هذا التسجيل، لأن مواقف عبد الناصر الثابتة موجودة في خطاباته وتصريحاته العلنية، وفي نهجه ومسيرته السياسية الواضحة.

– شفاعمرو – الجليل