التجاني صلاح عبد الله: هذه النهاية الموجعة!

التجاني صلاح عبد الله
قبل ان اكتب هذا المقال وافرغ منه، فجعنا وفجع الشعب السوداني كله، بل كل ذي ضمير حي، بتلك الحادثة الدموية المحزنة، التي قام بها افراد ميليشيات الدعم السريع الإرهابية في ناحية مدينة الصالحة ب-امدرمان، والتي كان من قدر الله، ان يلاقي نحو ثلاثين فردا من المواطنين الأبرياء العزل مصرعهم، على يد الارهابيين الهمج البرابرة، والذين نسأل الله العلي القدير، أن يمكن قواتنا المسلحة وجيشنا الباسل والقوات المشتركة من رقابهم، وأن يطهر بلادنا من رجسهم، وأن ينعم علينا بنصر كامل شامل، وأن يحفظ وينصر المسلمين في كل مكان، وان يتقبل شهداءنا، ولا حول ولاقوة الابالله العلي العظيم.
من الأشياء المحزنة التي يمكن ان تواجه بعض المبدعين، هي ان يعيش المبدعون بين اقوام لا يقدرون فنهم وابداعهم! ولا يحفلون بهم، ولا يغتنموا وجودهم ليغترفوا من فيض فنهم وحكمتهم، وهذا هو الاحرى والاوجب (في تقديري) لكن اسواء من ذلك هو ان يلاقي هولاء المبدعين نهاية محزنة وموجعة، وان يكونوا ضحايا للجهل والاساطير والخرافات التي تسيطر على ادمغة الطغاة والمستبدين! وهذا ما حدث بالفعل ل-شاعرنا “عبيد بن الابرص” الذي عده “ابن سلام” من فحول الشعراء الجاهليين في الطبقة الرابعة، وذكره بعد “طرفة بن العبد” وقرن بهما.
كان “عبيد بن الابرص” من الشعراء المميزين برجاحة العقل وحصافة الراي، وحسن تدبير الامور ومعالجتها، وقد عاش مع قومه بني سعد زهاء المائتين سنة وعشرين سنة (وهذا هو عمر “عبيد بن الابرص” كما ذكر في احدى قصائده، خلافا للروايات التي تقول أنه عمر ثلاثمائة سنة) يفرح لفرحهم ويبكي لبكائهم، ويدفع معهم الغارات التي تقوم بها القبائل الاخرى عليهم، وبعد ان اهلكت الحروب معظم قومه وافراد عشيرته جراء الحروب مع الغساسنة قال فيهم:
لِمَن طللٌ لَم يَعفُ مِنهُ المذانِبُ
فجنبا حبرٍّ قَد تعفى فواهبُ
ديار بَني سَعدِ بنِ ثعلبة الأولى
أَذاع بهم دَهرٌ عَلى الناسِ رائبُ
فأَذهَبَهُم ما أَذهَبَ الناسَ قبلَهُم
ضِراسُ الحروبِ والمنايا العواقِبُ
أَلا رُبَّ حيٍّ قد رأَينا هُنالِكُم
لَهُم سَلفٌ تَزوَرُّ منهُ المقانبُ
فأقبل على أَفواقِ مالَكَ إِنَّما
تَكَلَّفتَ مِل أَشياء ما هُوَ ذاهِبُ
ومع ان شاعرنا ذكر قومه بأصدق ابيات الشعر، مذكرا بماضيهم العريق وامجادهم وقوتهم، فقد لقي هو نفسه مصيرا شنيعا ونهاية موجعة، علي يد اسواء الطغاة، وهو “المنذر ابن ماء السماء”، الذي اختلطت عنده الحقائق بالأساطير والجهل بالخرافات، فقد كان له نديمين من بني اسد (كما تذكر الروايات) واغضباه ذات مرة في بعض المنطق، فأمر “المنذر” بأن يحفر لكل منهما حفيرة في الحيرة، ثم يجعل نديميه في تابوتين ويدفنا في الحفيرتين، ففعل بهما ذلك كما امر. وعندما أصبح سأل عنهما فأخبر بهلاكهما وموتهما، فندم على ذلك اشد الندم، وغمه غما شديدا، ثم ركب حتى نظر اليهما، فأمر عند ذلك ببناء الغريين، وهما بناءان مطليان على الضريحين، وجعل “المنذر” لنفسه يومين في السنة يجلس فيهما عند الغريين، أحدهما يوم نعيم والاخر يوم بؤس! فأول من يطلع عليه في يوم نعيمه فانه يعطيه مائة من الإبل، واول من يطلع عليه يوم بؤسه يعطيه رأس ظربان أسود، ثم يأمر به فيذبح ويغرى بدمه الغريان! واستمر هذا الحال الغريب المفزع لفترة من الزمن، وكان من قدر “عبيد بن الابرص” انه كان اول من أشرف عليه يوم بؤسه! فقال: هلا كان الذبح لغيرك يا “عبيد”؟ فقال: أتتك بحائن رجلاه فأرسلها مثلا، وهو مثل يضرب لمن حان أجله ولمن يسعى الى المكروه حتى يقع فيه.
فقال المنذر: أو أجل بلغ أناه. ثم قال له: أنشدني، فقد كان شعرك يعجبني، فقال: حال الجريض دون القريض، وبلغ الحزام الطبيين، فأرسلها مثلا. فقال له اخر: ما اشد جزعك من الموت! فقال: لا يرحل رحلك من ليس معك، فأرسلها مثلا. فقال له المنذر :قد أمللتني فأرحني قبل ان آمر بك! فقال عبيد: من عز بز، فأرسلها مثلا. فقال المنذر: أنشدني قولك: “اقفر من أهله ملحوب “فقال:
أقفر من أهله عبيد
فليس يبدي ولا يعيد
عنت له عنة نكود
وحان منه لها ورود
فقال له المنذر: يا عبيد ويحك أنشدني قبل ان اذبحك. فقال عبيد:
والله ان مت ما ضرني
وان أعش ما عشت في واحده
فقال المنذر: انه لابد من الموت، ولو ان النعمان (أي ابنه) عرض لي في يوم بؤس لذبحته، فاختر ان شئت الأكحل وان شئت الأبجل وان شئت الوريد، فقال عبيد: ثلاث خصال كسحابات عاد، واردها شر وارد وحاديها شر حاد، ومعادها شر معاد، ولا خير فيها لمرتاد، وان كنت لا محالة قاتلي فاسقني الخمر، حتى إذا ماتت مفاصلي وذهلت ذواهلي فشأنك وما تريد. فأمر المنذر بحاجته من الخمر، حتى إذا اخذت منه وطابت نفسه، دعا به المنذر ليقتله، فلما مثل بين يديه أنشأ يقول:
وخيرني ذو البؤس في يوم بؤسه
خصالا أرى في كلها الموت قد برق
كما خيرت عاد من الدهر مرة
سحائب ما فيها لذي خيرة أنق
سحائب ريح لم توكل ببلدة
فتتركها الا كما ليلة الطلق
فأمر به المنذر ففصد ونزف دما، فلما مات طلي بدمه الغريان!