ياسين فرحاتي: غزة و فلسفة الشهادة.. وعودة على خطاب شوبنهاور “العالم بما هو إرادة وفكرة” 

ياسين فرحاتي: غزة و فلسفة الشهادة.. وعودة على خطاب شوبنهاور “العالم بما هو إرادة وفكرة” 

 

ياسين فرحاتي
يتنزل هذا المقال في مواكبة للأحداث المأساوية والأليمة التي تدور رحاها في غزة ولا نستثني الضفة الغربية منها  وخصوصا مدينة جنين حيث يصر المحتل الصهيوني على إبادة السكان هناك و محوهما من خارطة الوجود و فرض سياسة تهجير قسري ليرتكب بذلك أكبر وأبشع وأفضع جريمة حرب إبادة في التاريخ الحديث حيث تجاوز عدد الشهداء في غزة الأبية 50.000 ناهيك عن إلاف المصابين الذين هم تحت الركام. يأتي هذا و العالم يشهد حملة تضامن شعبي دولي من تونس إلى الولايات المتحدة الأمريكية مع الشعب الفلسطينيي وفي وقت يستعد فيه  “هتلر العصر الجديد” نتانياهو لملاقاة داعمه الأول الرئيس الأمريكي ترامب. و يضغط الرأي العام الدولي من أجل وضع حد لهذه المأساة والجحيم الذي لا يطاق ولا يوصف.
وقد ارتأيت أن أتناول هذا الموضوع من وجهة نظر فلسفية لأعطي للموضوع بعدا أكثر عمقا ومن زاوية أكثر تحليلات مستعينا في ذلك بما كتبه الفيلسوف الألماني آرثر شوبنهاور الذي طبعت حياته و فلسفته نزعة التشاؤم و إن كنت جد متفاؤل بمستقبل الشعب الفلسطينيي المجاهد و الصابر على بلواه وذلك استنادا إلى تاريخ الشعوب التي رزحت تحت نير الاستعمار ردحا من الزمن وليس أقربها إلينا الشعب الجزائري أو ما عاناه الشعب البوسني من مجازر يندى لها جبين الإنسانية على يد الصرب كما كتب عنها المفكر المصري فهمي هويدي.
و من خلال كتاب ” قصة الفلسفة ” لول ديورانت و ترجمة الدكتور فتح الله محمد المشعشع الصادر عن مكتبة المعارف بلبنان، سنستكشف ظروف وملابسات تأليف هذا الكتاب محاولين مقارنة ذلك الوضع السياسي و الاجتماعي الذي تحدث عنه شوبنهاور بما يشهده قطاع غزة منذ من عام ونصف من حرب وحشية على سكانه لا تستني أحدا ولا تبقي ولا تذر !
وقد ظهر كتابنا هذا المفكر في عام 1818، عندما كان عصر الحلف المقدس الذي أتحدث فيه أوروبا ضد نابليون و هزمته في معركة واترلو.  و بذلك تم القضاء على الثورة الفرنسية وأبعد نابليون إلى صخرة سانت هيلانة في البحر البعيد، إن شيئا من تمجيد شوبنهاور للإرادة يعود إلى تأثرت بنابليون، كما أن شيئا من يأسه يعود إلى تأثرت بخاتم نابليون المحظنة، لقد هزمت الإرادة أخيرا بهزيمة نابليون، وانتصر الموت كعادته في كل الحروب وعاد ” البوربون ” إلى الملك في فرنسا، وعاد أمراء الإقلاع للمطالبة في استرجاع أراضيهم، وانتشرت حركة رجعية استغلت مثالية الإسكندر المسلمة وراحت تعمل على قمع التقدم في كل مكان.
وانتهى العصر العظيم، وقال جوته في ذلك العصر أشكر الله، بأنني لست شابا في مثل هذا العالم المضطرب الذي انتهى فيه كل شيء بالخراب.
لقد كانت أوروبا كلها خرابا منهوكة القوى، وقضت الحرب على ملايين الرجال الأشداء، و تركت الملايين من فدادين الأراضي مهملة، و كان على الحياة أن تبدأ من جديد من اول المرحلة، تدريجيا و بتضحية مقرونة بالألم لاسترداد اقتصاديات البلاد التي استنزفتها.
إنه من المؤسف أن نقارن نابليون  برئيس حكومة العدو الصهيوني نتانياهو الذي يريد أن يجعل من نفسه تشرشل جديد ولكن الظلم والاضطراب و الخراب و الدمار الذي تعيشه غزة وفلسطين لا يقل فضاعة عما عاشته أوروبا التي اتحدت ضد نابليون لهزمه ولكن الغرب توحد من أجل قهر شعب أعزل ترك وحيدا يقاسي المجاعة و الحصار وكل ألوان وصنوف الحرمان من الحياة الإنسانية الطبيعية.
وكما يقول شوبنهاور حينما لاذ الكثير في تلك الأيام التي سادها الألم وخيبة الأمل إلى الدين طلبا للسلوى والعزاء. وفقد قسم كبير من الطبقة العليا إيمانهم، و نظروا إلى هذا العالم الذي يسوده الدمار و الخراب نظرة الكفر و الإلحاد و الشك في وجود حياة أخرى يحل فيها العدل و الجمال محل هذا الخراب والدمار الذي روع هذا العالم. وأصبح من المتعذر الإيمان بوجود إله رحيم يهيمن على شؤون العالم كما شاهده الناس في عام 1818، نرى إخوتنا الأعزاء في غرة الذين دمرت جوامعهم و مساجدهم و بيوتهم دمار كاملا لم يجدوا من ملجئ لهم سوى الحمد والاستغفار موقنين بأنهم بأن شهداؤهم في الجنة و أن النصر صبر ساعة أو هو أقرب من حبل الوريد بجمعية و مشيئة الله تعالى.
يقول شوبنهاور في باب العالم شر: “ولكن إذا كان العالم في حقيقته إرادة، لا بد أن يكون مليئا بالألم و العذاب، وذلك لأن الإرادة بما هي الرغبة الواعية ( عن كتاب فلسفة العلوم بالفرنسية )   و هي دائما تطلب المزيد عما حصلت عليه، و في إشباع رغبة يطل من وراءها عشرات الرغبات التي تطلب إشباعها وتحقيقها، إن الرغبة لا نهاية لها، ومن المتعذر إشباعها جميعها أنها كالصدقة التي تدفعها للفقير تغنيه عن الجوع لمواجهة البؤس والفقر غدا. . ما دامت الإرادة تطغى وتملأ شعورنا، و ما دمنا خاضعين لتجمع الرغبات و آمالها و مخاوفها الدائمة، وما دمنا خاضعين للإرادة، فلن نبلغ السعادة الدائمة أو السلام إطلاقا.
وفي هذا المضمار، يقول الفيلسوف فتحي التريكي عن موقف مجتمع الفلاسفة من عالم اليوم : أن العالم منشطر إلى نصفين : إنسانية قاهرة و إنسانية مقهورة . و أن الفلاسفة في سعي دؤوب إلى تحقيق السلام مستشهدا  في ذلك بكلام الفيلسوف الألماني إيمانويل كانت وكتابه من “أجل سلم دائمة” والذي قدم فيه حلولا و بدائل من أجل تحقيق تلك الغاية السامية و النبيلة.” ( المصدر : حوار على قناة فرانس 24 ، بمناسبة اليوم العالمي للفلسفة).
ونستذكر مقولة سقراط : “لا يخشى الموت إلا جاهل أو جبان” وهو لا يعني البتة أن الفلسطينيين لا يحبون الحياة أو غير مقبلين عليها و إنما هم أناس أسوياء و حكماء أيضا. و يقول شوبنهاور :” إن فلسفة الشرق تفهم وجود الموت في كل مكان و تقدم لطلابها هدوء المظهر و الصبر و الكرامة في تحمل الحياة و مواجهة الموت الناشئة عن إدراكهم لقصر حياة الإنسان. إن خشية الموت هي بدء الفلسفة و هي العلة النهائية للدين، والإنسان العادي عاجز عن التوفيق بين نفسه و بين الموت، لذلك فهو يضع فلسفات و ديانات لا تحصى. إن ما يسيطر على الناس من عقيدة الإيمان بالخصوص لدليل على خوف الناس و فزعهم من الموت.”
لقد حاولت من خلال هذه المساهمة الفكرية إبراز مدى تشبث الفلسطيني بالحياة و أن لا يموت إلا بشرف و بقدسية مؤمنا أشد الإيمان بحجم هذا الابتلاء و أنه على قدر هذا الابتلاء يكون الجزاء. أما الصهاينة الذين يكرهون الموت و إذا ما نجوا منها فإن الكثير منهم قد أصيب بالجنون نتيجة الخوف الشديد و الهلع الكبير بسبب ضعف الإيمان و كفرهم بقدر الله.
كاتب من تونس.