حسيـن كاظم: الحرب المحتملة بين الولايات المتحدة وإيران: قراءة موضوعية في المسببات والأحداث والعواقب

حسيـن كاظم
“لقد كنتُ أقول -حتى احمرّ وجهي- بأن ترامب جادٌّ بشأن مهاجمة إيران. إذا لم تضع إيران برنامجها النووي على الطاولة، فإنها سوف تُضرب. وأعتقد بأنها لن تكون ضربةً من نوع الضربة التي سُدِّدَت لليمن، بل إنها سوف تكون (ضربةً تُنهي أمّة)! سوف تكون حملة جوية استراتيجية مصممة لا فقط للقضاء على الإمكانيات النووية الإيرانية، بل للقضاء ع-لى النظام”. هذا ما قاله سكوت ريتر، ضابط الاستخبارات الأميركي السابق، عندما سُئِلَ عن تهديدات ترامب الأخيرة لإيران.
في هذا المقال، سوف نتناول هذه التهديدات خصوصًا: ما هي دوافعها ومسبباتها؟ وما هي ردة الفعل الإيرانية عليها؟ وهل ردة الفعل هذه موزونة سياسيًّا؟ وكيف سيكون شكل الضربة الأميركية -إذا حدثت- لإيران؟ وهل سيسقط النظام الإيراني؟ وما هي الأضرار المحتملة على الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها في المنطقة؟ وهل ستفوز الولايات المتحدة وتفرض إرادتها في نهاية المطاف؟
v قراءة في أسباب التهديدات “الترامبية” لإيران:
في ولايته الأولى، لم يكتف ترامب بالانسحاب من الاتفاق النووي الذي عقدته الدول العظمى مع إيران، والذي كان يقيّد البرنامج النووي الإيراني إلى حد كبير، وفي المقابل يرفع العقوبات الاقتصادية عن إيران، وإنما ذهب ترامب أيضًا لاتّباع “سياسة الضغط الأقصى” على إيران، من أجل إجبارها على التفاوض على اتفاق نووي جديد، الأمر الذي رفضته إيران رفضًا قاطعًا.
وأما أسباب انسحاب ترامب من الاتفاق النووي مع إيران، فقد اشتملت على الحجج التالية:
عدم كفاية القيود على البرنامج النووي الإيراني في الاتفاق، من حيث إنها كانت مؤقتة (لمدة عشر سنوات أو خمس عشرة سنة)، وتسمح أيضًا بتخصيب اليورانيوم -وإن بنسب منخفضة سنويا-، مما قد يشكل تهديدًا على المدى الطويل.
عدم تطرق الاتفاق لبرنامج إيران الصاروخي الذي رأى فيه ترامب تهديدًا للأمن الإقليمي والدولي، خصوصًا وأن الجمهورية الإسلامية قطعت شوطًا طويلًا في تطوير الصواريخ الباليستية، ورأى دونالد ترامب أنه من الضروري كبح هذا البرنامج.
عدم تطرق الاتفاق للدور الإقليمي لإيران، ودعمها للميليشيات المسلحة في فلسطين ولبنان واليمن والعراق وسوريا، بينما طمح ترامب إلى إخضاع إيران وقطع أذرعها في الإقليم.
هذه هي الأسباب الثلاثة الرئيسية المعلنة، إلى جانب كذبة مفادها أن إيران لم تلتزم ببنود الاتفاق النووي، نفتها تقارير الوكالة الدولية للطاقة الذرية. ولكن ربما يكون السبب الأهم والعامل الأكبر الذي دفع ترامب للانسحاب “الأحادي” من الاتفاق النووي، هو سبب غير مُعلن: اللوبي الإسرائيلي في الولايات المتحدة.
تقنن الولايات المتحدة الأميركية عمل اللوبيات وجماعات الضغط والمصالح، وتدخلاتها في الانتخابات وفي القرارات السياسية والتشريعية. ومن بين جميع اللوبيات في الولايات المتحدة، فإن اللوبي الإسرائيليّ هو اللوبي الأكثر نفوذًا وقوّةً وقدرةً على دعم مرشح وإسقاط آخر، وعلى صنع القرار، وعلى التشريع. ويحدث ذلك بوسائل مختلفة، أهمها: الدعم الماليّ الكبير الذي يقدّمه اللوبي للسياسيّين والمشرّعين الذين يشتريهم.
ولا يخفى الدعم الكبير الذي تلقاه دونالد ترامب من اللوبي الإسرائيلي في الانتخابات التي خاضها، وكذلك خلال عهده الرئاسيّ أيضًا، حيث سهّل اللوبي لترامب العديد من الأمور بأدواته. وقد ردّ ترامب هذا المعروفَ للّوبي بأن عَمِل على صعيد السياسة الخارجية في الشرق الأوسط وكأنه موظف لإسرائيل: الانسحاب من الاتفاق النووي مع إيران -وهو الاتفاق الذي لم يكن نتنياهو راضيًا عنه أبدًا-، ونقل السفارة الأميركية إلى القدس والاعتراف بها عاصمةً لإسرائيل، والسعي الحثيث للتطبيع بين إسرائيل ودول عربية.
وأما الاتفاق الذي أراد ترامب عقده مع الإيرانيين، والذي ما يزال يريد عقده، فهو اتفاق يعرّي إيران “حرفيًّا” من كلّ إمكاناتها العسكرية الدفاعية، ويجعلها مكشوفةً ومُستباحةً كلّيًّا من قبل أهم عدو لها في المنطقة: إسرائيل؛ فالاتفاق الذي سعى -وما زال يسعى إليه- ترامب هو اتفاق يقضي على البرنامج النووي الإيرانيّ كلّيًا، ويحدّ من البرنامج الإيراني الصاروخيّ بشكل كبير (مع العلم بأن هذا البرنامج يشكّل الركيزة الأساسية للآليات الدفاعية الإيرانية)، ويجبرها على الاعتراف علنًا بدعم الميليشيات المسلحة في الإقليم، والتراجع عن ذلك.
أما وقد عاد ترامب إلى البيت الأبيض، من بعد أربع سنوات من غيابه عنه، وفي خضم حرب ضروس تخوضها إسرائيل ضد غزة، والضفة الغربية، ولبنان، وسوريا، واليمن، والعراق، وإيران (التي يعتبرها ترامب ونتنياهو الراعي الرسمي لكل الميليشيات في هذه المناطق كلها)، وخصوصًا مع ازدياد ثقة ترامب بنفسه أضعافا وأضعاف، من بعد الفوز الكاسح الذي حققه في الانتخابات ضد كامالا هاريس، ورؤيته بأن الشعب الأميركي قد فوّضه بالسلطات واتخاذ القرارات تفويضًا كاملًا، فليس من المستغرب أن يعود إلى سياسة الضغط الأقصى.
وأما الأمر المستغرب بالفعل، فهو تلويح ترامب بالحرب وقصف إيران، رغم افتخاره لسنوات بأنه “الرئيس الأميركي الوحيد الذي لم يبدأ حربًا في عهده منذ سنوات”، ورغم ادعائه في الانتخابات أنه “صانع سلام” و”داع للسلام”، ورغم انتقاده الدائم للحرب على العراق وحرب أفغانستان، اللتين يعلم حق العلم أن الولايات المتحدة قد خسرت فيهما أكثر مما ربحت بكثير!
ورغم كل ذلك، وأخذا بالاعتبار طبيعته الترامبية “البلطجية” النشّالة، فليس من المستغرب أن يكونَ نفسَه؛ بلطجيًّا!
وكما أسلفنا في مقال سابق بعنوان “ترامب والحرب العالمية الثالثة المحتملة”، فإن ترامب قد تهوّر بالفعل، حتى في ولايته الأولى، حيث كاد أن يتسبب في حرب عندما قتل الجنرال الإيراني قاسم سليماني، لولا أن الإيرانيين تحلوا بالعقل وضبط النفس، وكان ردّهم محدودًا.
وقد تهوّرَ حينئذٍ، عندما كانت ثقته بنفسه أقل بكثير عما هي عليه الآن، وعندما كان تضخم ذاته لديه أقل بكثير عما هو عليه الآن. فما بالك به الآن.. وقد أعطاه الشعب الأميركي “التفويض”؟
وللتلخيص، نقول: من أهم دوافع وأسباب التهديدات الترامبية لإيران: الضغط على إيران للتفاوض على اتفاق جديد يعرّيها فيه من إمكاناتها النووية والعسكرية -الهجومية والدفاعية-، تأثير اللوبي الإسرائيلي الصهيوني وإسرائيل نفسها، والغرور الترامبي المُعتاد.
v قراءة في ردة الفعل الإيرانية:
يقول هنري كيسنجر: “إنه من الخطير أن تكون عدوًّا للولايات المتحدة، ولكنه من المميت أن تكون صديقًا لها”!
قل ما شئت عن إيران والنظام الإيراني، وخُذ عليه ما شئت من ناحية الدكتاتورية والثيوقراطية وغياب حرية التعبير والتخلف وما إلى ذلك، ولكن.. لا يملك المرء سوى أن يُعجب بإيران من بعض النواحي، وأن يتعجب منها: كيف لنظام حورب بمجرد قيامه حربًا شرسة من قبل أقوى القوى العالمية، وتُفرض عليه كل هذه العقوبات الاقتصادية القاسية الكفيلة بتركيع أي نظام، ويُحرم من كلّ الإمكانات المتطورة- كيف لمثل هذا النظام أن يصمد لأكثر من أربعة عقود ونصف، بل وأن يطور من إمكانياته الاقتصادية والسياسية والعسكرية، وأن يجبر القوى العظمى على مجرد الرغبة في التفاوض معه؟
لإيران “حكمة استراتيجية” خطيرة تذهل العدوّ قبل الصديق؛ فهي تحسب خطواتها جيدا، وتبتعد عن التهور والانفعال، وتلتزم العقل والتعقل.
ولنرى ذلك بوضوح، فلنقارن بينها وبين إسرائيل: هذه الأخيرة أشبه بالكلب المسعور؛ بمجرد أن تتعرض لاعتداء، من أية جهة كانت، فإنها تنفلت انفلاتًا خطيرًا فتُلقي القنابل وتزهق الأرواح وتسفك الدماء وتدمّر الإنسان والحيوان والبنيان، ولا تحسب حسابًا لأية ردة فعل دولية، وتتهور بشكل خطير كما فعلت عندما قصفت مبنىً تابعًا للسفارة الإيرانية في دمشق، وعندما اغتالت الشهيد إسماعيل هنية في طهران، بعد حفل تنصيب الرئيس الإيراني الجديد!
بينما إيران، قبل أن تسدد أية ضربة، كانت تأخذ وقتها في الرد، فلا تنفعل ولا تنفلت. وعندما تضرب، فهي إما تضرب بأذرعها بشكل غير مباشر، أو تضرب بشكل محدود ومحسوب عندما تضرب بشكل مباشر، فلا تزهق الأرواح تجنبا لاستفزاز المجتمع والقانون الدوليين.
وقد يكون جزء من أسباب ذلك هو أن إسرائيل تفلت من العقاب دومًا فتسيء الأدب، بينما إيران تعاقب فتحسب الحسابات. ومع ذلك، تبقى الحقيقة أن إيران تلتزم بمنهجيتها في الحكمة الاستراتيجية، بينما تلتزم إسرائيل ومن خلفها الولايات المتحدة استراتيجية الكلب المسعور.
لا يملك العاقل أن يلوم إيران على عدم رغبتها في التفاوض على اتفاق نووي جديد من بعد غدر الولايات المتحدة بالاتفاق الذي أبرمته معها سابقًا، خصوصًا وأن الغادر يود أن يجبرها على اتفاق يجعلها فيه تخسر كل شيء، وليس أقل خسائرها: خسارة أمنها الاستراتيجي ومنظومتها الدفاعية، وانكشافها أمام عدوّها الإسرائيلي!
كان هذا هو منطلقها لعدم التفاوض مع ترامب في ولايته الأولى. وأما في ولايته الثانية، بعد كل ما حدث، وأثناء الحرب الإسرائيلية متعددة الجبهات، والمستمرة، ورغبةً في النجاة بالاقتصاد الإيراني “المأزوم بالفعل”، فإن الجمهورية الإسلامية قبلت -بعقل- التفاوض، ولكن بشكل غير مباشر، وعن طريق وسطاء. وهذا موقف معقول جدًّا، أخذًا بالاعتبار أن إيران ما تزال غاضبةً من غدر الولايات المتحدة بها وانسحابها الأحادي من الاتفاق.
وبعد أن أطلق ترامب تهديداته: أما الاتفاق أو القصف وضرب إيران، فإن هذه الأخيرة أعلنت أنها لن تقبل التفاوض المباشر تحت التهديد.
وهذا موقف يبدو سليمًا للعقلاء أيضًا؛ فلو أن إيران خضعت منذ البداية، لكان ترامب -كما هو المعتاد في سلوكه الملتوي- قد أجبرها على تنازلات أكثر خطورةً وفداحة!
أما وقد أعلنت إيران أنها سوف لن ترضخ تحت التهديد، وأنها لن تتفاوض إلا عن طريق وسطاء، فهي تحافظ على صورتها وقوّتها ومكانتها الإقليمية.
وكما يعرض ترامب عضلاته في اليمن، وفي غزة على أيدي الاحتلال الإسرائيلي، فقد شرعت إيران تستعرض قوتها أيضًا بنشر فيديوهات لمدنها الصاروخية تحت الأرض، وباستعراض بنك أهدافها في المنطقة.
إيران تعلمت الدرس من هنري كيسنجر جيّدًا، وفضّلت أن تكون في خطر العداوة مع الولايات المتحدة، على أن تكون في قبر الصداقة مع الولايات المتحدة.. وليس مثال أوكرانيا ببعيد!
v الضربة الأميركية لإيران.. قراءة في العواقب المحتملة:
لا أختلف مع سكوت ريتر في حقيقة أن الضربة الأميركية لإيران، إذا حدثت، فإنها سوف تكون ضربةً استراتيجية قوية قد تُنهي النظام الإيرانيّ بالفعل. ولكن.. لن يكون الأمر بهذه السهولة!
أثبتت إيران أن لصواريخها القدرة على ضرب تلّ أبيب ضربات موجعة، خصوصًا كما ظهر في عملية “الوعد الصادق 2”. وأثبتت أيضًا أن صواريخها هذه قادرةٌ لا على هتك الدفاعات الإسرائيلية وحسب، بل هي قادرة أيضًا حتى على اختراق دفاعات الناتو الذي تحالف بأكمله لحماية إسرائيل!
يراهن الكثيرون من كارهي إيران، بل وحتى من بعض المراقبين المحايدين أو المتعاطفين (ومن بينهم سكوت ريتر نفسه)، على واقع أن إيران مُخترقةٌ من قبل إسرائيل، كما أن حزب الله مُخترق من قبل إسرائيل أيضًا. ويضربون المثل -بحق- في واقعة اغتيال الشهيد هنية في طهران، مباشرة بعد حفل تنصيب الرئيس الإيراني الجديد!
كما ويراهن هؤلاء كذلك على إضعاف حلفاء الجمهورية الإسلامية في المنطقة، وعلى رأسهم: حزب الله. ويراهنون أيضًا على الحنق الداخلي في الجمهورية الإسلامية الإيرانية على النظام، وتحين هذا الداخل الفرصَ لإسقاط النظام الإيراني.
وفي الحقيقة، فإن هؤلاء محقّون في ادعاءاتهم أن إيران مُخترقة، وقد ثبت ذلك في أكثر من مناسبة حتى من قبل 7 أكتوبر، عندما اغتالت إسرائيل العالمَ النووي الإيراني محسن فخري زاده عام 2020، وعندما هاجمت إسرائيل مُفاعل نطنز النووي الإيراني عام 2021 في هجوم سيبراني خطير، هذا وناهيك عن حادث الطائرة التي قُتِل فيه الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته عبداللهيان، الذي ترجّح بعض النظريات مسؤولية إسرائيل عنه، لا كونه مجرد حادث.
وأنا شخصيا رأيت بأمّ عينيّ كم أن السردية الإسرائيلية ناجحة ورائجةٌ في بعض الأوساط الإيرانية، عندما التقيتُ بسيّاحٍ إيرانيّين -من طهران- في إحدى الدول التي كنتُ مسافرًا إليها، فتحاورنا قليلًا عن إيران وعن المنطقة عموما وعن غزة خصوصًا، فوصفوا حركة حماس بالإرهاب، وامتدحوا إسرائيل ونتنياهو!
نهض جيل جديد مُختلف عن الجيل الثوري، وثمة نقمة وسط هذا الجيل على الأوضاع الاقتصادية المتردية في إيران، وعلى طبيعة الحكم الثيوقراطية والنزّاعة للدكتاتورية، وعلى هيمنة المرشد على الحكومة إصلاحيًّا كان الرئيس أم محافظًا.. إلخ. وهذا الجيل بعيدٌ عن الثورة وسردياتها، بل وقد يكون جاهلًا بحيثيّاتها، أو ببساطة غير مكترث بها، وراغب في حياة أفضل.
رغم كل ذلك، فلن تكون ضربة إيران سهلة على الولايات المتحدة!
نعم، قد تحرّك إسرائيل والولايات المتحدة عملاءها في الداخل الإيراني لإضعاف النظام، وقد تسعيان لاغتيال أهم رموز النظام، وقد تنجحان في ذلك. ولكن سوف تبقى لدى الصف الثاني القدرة على ضرب تل أبيب واختراق دفاعاتها الجوية، ودكّ إمكانياتها العسكرية بدقة، وسوف تبقى لدى الجمهورية الإسلامية أيضًا القدرة على ضرب القواعد الأميركية في المنطقة، وعلى رأسها قاعدة دييغو غارسيا في المحيط الهندي، والتسبب بخسائر فادحة للأمريكان.
وإذا كانت الولايات المتحدة غير قادرة بعد على حسم المعركة مع اليمن، رغم محدودية إمكانياته، وما يزال اليمن قادرًا على ضرب إسرائيل وعلى محاربة الأمريكان وقصف حاملات طائراتهم، بل وإسقاط طائراتهم أيضًا، فما بالك بإيران المتقدمة على اليمن بأشواط تكنولوجيًّا، والمالكة لأعداد مهولة من الصواريخ البعيدة والمتوسطة المدى؟
بعض التقديرات تُشير إلى أن حربًا مع إيران قد تسبب دمارًا كبيرًا وخسائرَ مهولةً لإمكانيات بحرية الولايات المتحدة، ناهيك عن الخسائر المحتملة في الأرواح الأميركية، إذا استهدفت إيران قواعد أميركية في المنطقة وفي قاعدة دييغو غارسيا.
وهكذا، فأوّلًا: مقابل الدمار الذي سيحل بإيران إثر القصف الأميركي -إن حدث-، إذ ستُدمّر إمكاناتها النووية، وقد تُصاب ترسانتها الصاروخية أيضًا بأضرار، ومقابل قتل شخصيات بارزة في النظام، ورغم الاختراق الداخلي، سوف تبقى لإيران قدرة (وخصوصًا إذا تمكنت من سد الثغرات ومكافحة الاختراقات) على قصف قواعد الولايات المتحدة في المنطقة، وعلى قصف تل أبيب، والتسبب بخسائر فادحة لكل من الولايات المتحدة وإسرائيل، وخصوصًا لهذه الأخيرة.
ثانيًا: فلنفرض أن الولايات المتحدة وإسرائيل قد تمكنت بالفعل من إسقاط النظام الإيراني، ماذا بعد؟ هل ثمة ضمانة لتحقيق الاستقرار في إيران بعدئذٍ؟ ألا توجد إمكانية كُبرى لأن تعمّ إيرانَ الفوضى، كما حدث في العراق من بعد سقوط صدام حسين، وفي ليبيا بعد سقوط القذافي، وفي السودان بعد سقوط البشير.. وهلم جرّا؟
والفوضى غالبًا ما تكون مُعديةً جدًّا ومُضرّةً جدًّا، خصوصًا إذا كانت في موقع جيوستراتيجي مهم كما هو موقع إيران. ولنا في العراق -ذي الموقع الجيوستراتيجي المهم أيضًا- خير مثال؛ إذ إن فوضاه تسرّبت وتفجّرت في مناطق أخرى من المنطقة من بعد الغزو الأميركي للعراق، بشكل فاق نتائج الفوضى السودانية أو الليبية. وكذلك أيضا كان الحال في إثر فوضى الحرب الأهلية السورية.
لإيران حدود برية مع سبع دول هي: العراق، تركيا، أرمينيا، أذربيجان، تركمانستان، أفغانستان، وباكستان. وإذا سقط النظام الإيراني وغرقت البلاد في فوضى، كما صار إليه حال كلّ بلاد دخلتها الولايات المتحدة غازيةً، أو حتى متخفيةً وراء غازٍ آخر أو مهاجم آخر، فإن الفوضى ستعم البلدان المجاورة أيضًا، بل والإقليم بأكمله، وسيرتدّ ذلك عكسيًّا على إسرائيل والولايات المتحدة وحلفائهما قبل أي أحد آخر!
وباختصار: ليس ثمة مصلحة لأحد في أن تنشأ فوضى أو حرب أهلية في بلاد كبرى وذات موقع استراتيجي مهم كإيران، وذلك سوف يضر الجميع وسيرتد عكسيًّا، وستعم المنطقةَ بأكملها الفوضى.
ثالثًا: من بين أهم أوراق إيران في الضغط على الولايات المتحدة وعلى العالم بأكمله، موقعها الجغرافي المهم المطل على مضيق هرمز الذي تتدفق منه ثلث إمدادات النفط العالمية يوميًّا. وبشكل يؤذي الولايات المتحدة خصوصًا، والغرب عمومًا، بل والعالم بأكمله، وبأقل جهد، تستطيع إيران أن تعرقل الإمدادات النفطية العالمية في مضيق هرمز، وأن تتسبب -عن طريق ذلك- برفع أسعار النفط العالمية حتى تناطح السحب، فتثور الشعوب في مختلف دول العالم (وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية) على قادتها، ويُلعَن ترامب ويُنبذ لا في مختلف أرجاء المعمورة وحسب، بل وقبل ذلك في الولايات المتحدة الأميركية نفسها، حيث انتُخِبَ لينهض بالاقتصاد ولينهي الحروب، فإذا به ينهمك في تدمير الاقتصاد ورفع أسعار الطاقة والبدء والتورط في حرب لن تكون نتائجها على الولايات المتحدة إلا قبيحة!
حتما سوف تستعمل إيران ورقة الضغط هذه، إذا هاجمتها الولايات المتحدة، وسوف تعرقل الإمدادات النفطية العالمية، متسببة في ارتفاع أسعار الطاقة إلى مستويات غير مسبوقة، وفي ثورة أميركية على ترامب بالتبعية؛ فالشعب الأميركي لا يطيق رفع أسعار الوقود أكثر، ولن يطيق تجّار النفط الأميركيون الإفراج عن كميات كبيرة من النفط لحلحلة الأسعار داخل الولايات المتحدة، إذ سوف ينتفعون هم أنفسهم من ارتفاع الأسعار، الأمر الذي من المحتمل أن يؤدي إلى حرب أهلية في الداخل الأميركي نفسه!
رابعًا (وأخيرًا وليس آخرًا)، لا يُستبعد أن تكون الحرب على إيران مقدمة أو مؤدية إلى الحرب العالمية الثالثة التي يدّعي ترامب أنه يحاول منعها!
لا ينفي عاقل وجود تعارض بين المصالح الاستراتيجية الروسية وبين المصالح الاستراتيجية الإيرانية في بعض الأمور، ولكن النظام الإيراني الحالي حليف مهم لروسيا، ولا يمكن أن تفرط فيه روسيا بسهولة. لا يعني ذلك أنها سوف تدخل في حرب مع الولايات المتحدة الأميركية من أجل إيران، ولكن طبيعة التحالفات المعقدة بين الصين وروسيا وإيران قد تتمخض عن عواقب أكثر خطورةً، ليس أقلها استغلال الصين انشغال الولايات المتحدة بإيران لضمّ تايوان إلى الصين، الأمر الذي سيؤدي حتمًا إلى حرب عالمية ثالثة!
هذا وناهيكم عن احتمالية أن تغيّر إيران من عقيدتها النووية، وأن يقدم المرشد الإيراني الأعلى على تغيير فتواه فيما يخص الحصول على سلاح نووي، فتخصب إيران اليورانيوم وتحصل على سلاح نووي لحماية نفسها بالفعل، على الأقل في أحد المواقع الإيرانية النووية السرية، الأمر الذي سوف تكون إليه عواقب خطيرة أخرى، ليس أقلها الدخول في سباق تسلح مع دول الجوار.
ورغم كل شيء، تبقى أخطار داخلية وخارجية كثيرة محيطةً بإيران؛ فأعداؤها في الداخل الإيراني كثيرون، كما هم كذلك أعداؤها في الخارج.
v قراءة في “ما الذي سيحدث”؟
تحدثنا في مقال “ترامب والحرب العالمية الثالثة المحتملة” عن سياسة ترامب المسماة بـ”السلام من خلال القوة”، والتفاوض من خلال التهديد والوعيد، وعن مدى خطورة هذه السياسة.
وما يجدر بنا الإشارة إليه، في هذا الموضع، هو أن هذا الأسلوب هو أفشل وأغبى أسلوب قد يتبعه ترامب، ولا ينمّ إلّا عن جهل أو سوء فهم للطبيعة الإيرانية التي لا ترتضي التفاوض تحت التهديد. ولن تنتج أساليب ترامب هذه إلا المزيد من التوتر والتأزيم
السياسة الثانية التي يشتهر ترامب أيضًا باتباعها هي سياسة “إغراق العالم بالهراء”؛ فهو لا يكف عن إثارة الجدل في كل يوم تقريبًا، وكل يوم بطريقة. ما يغفل معظم الناس عنه أنه لا يفعل ذلك اعتباطًا، وإنما بشكل مُتعمّد؛ ليثير الجدل ويشغل الناس بينما يفعل أشياء أخرى يبعد الأعين عنها.
وأما السياسة الثالثة والأكثر شهرةً التي يتبعها ترامب فهي سياسة “الرجل المجنون” الذي قد يفعل أي شيء، ولا يمكن التنبؤ بتصرفاته. وهذه في الواقع سياسة ذكية بقدر ما هي خطيرة؛ إذ هي تنجح في إرباك الخصوم وبثّ الخوف والرعب في صدورهم من الإقدام على أية خطوات متهورة، وتجبرهم على الحذر من أية خطوات غير محسوبة، وعلى الخضوع للتفاوض.
إيران تدرك ذلك جيدا، ولذلك فإنها قبلت بالمفاوضات، ولكنها أعلنت أنها لن تقبل إلا بمفاوضات “غير مباشرة”؛ ما يدل على عدم ثقة من جانب الإيرانيين بالأمريكان.
لا أملك التنبؤ بتصرفات ترامب، ولكنّي أعتقد بأنه سوف يكون شديد الغباء إذا خاطر بتوجيه ضربة قوية لإيران، قد ينتج عنها: ضرب إيران للقواعد الأميركية، وضرب إيران لإسرائيل ودكّ تلّ أبيب بالأرض بالصواريخ الإيرانية الفرط صوتية، وانهيار الاقتصاد العالمي، وارتفاع أسعار الطاقة، وتأجيج الاضطرابات والانقسامات الأهلية في داخل الولايات المتحدة الأميركية إثر ذلك، وإشاعة الفوضى الكبرى في الشرق الأوسط حتى إذا سقط النظام الإيراني!
بالفعل، سوف يكون شديد الغباء والتهور إذا فعل ذلك، خصوصًا إذا أخذ بعين الاعتبار عدم قدرته وعدم قدرة بلاده على حسم معركة اليمن، رغم أن اليمن أقل تطورًا وتعقيدًا بكثير من إيران!
وعلاوةً على ذلك، سوف يكون ترامب ملعونًا منبوذًا في الولايات المتحدة والغرب، وفي التاريخ، ولن يُتذكر كـ”صانع سلام” كما يدعي أنه يتمنى، بل كرجل حرب غبي مندفع متهور.. وهذا لا يبدو إرثًا يرغب فيه رجل نرجسي مثل ترامب!
كاتب وروائي بحريني