الدكتور كايد الركيبات: قراءة انطباعية في كتاب “النداء الأخير”

الدكتور كايد الركيبات
تقدّم مجموعة القصص القصيرة المنشورة تحت عنوان “النداء الأخير” للكاتب موسى أبو رياش، الصادرة عن دائرة الثقافة في حكومة الشارقة نماذج قصصية ثرية، تُعبر عن نضج سردي وخبرة فنية ووعي اجتماعي وإنساني لافت، تجلى ذلك في تناول الكاتب لموضوعات تمس جوهر الحياة اليومية، وتستدعي من القارئ التأمل في تفاصيلها النفسية والسلوكية والاجتماعية، حضرت في كل قصة رسالة ضمنية أو صريحة، تتجه في الغالب إلى القيم الإنسانية كالحب والتضحية والواقعية والحرية والصدق مع الذات، وهي رسائل لا تُفرض على القارئ، بل تُزرع في طيّات السرد، فالمجموعة المكوّنة من خمس عشرة قصة قصيرة تستقرئ الوجع الإنساني، وتغوص في طبقات الذات والمجتمع، عارضة إياها بأسلوب لغوي بسيط، غير أن وراء بساطته عمقاً دلالياً وإحساساً صادقاً بالمأساة المعاصرة.
أول ما يُلحظ في هذه المجموعة هو ميل الكاتب إلى معايشة القضايا الواقعية بأسلوب أدبي لا يخلو من شاعرية أو رمزية، كما في قصة “الحذاء المثقوب” التي تقترب من أدب الفانتازيا الرمزية لتُبرز قدرة الأشياء المهملة على حمل الذاكرة والوجع الإنساني، فالحذاء في القصة لا يؤدي وظيفة مادية فقط، بل يتحوّل إلى شاهد على الزمن القاسي ومُرافق صامت في درب الشقاء.
أما قصة “على حافة الوجع” فتنقل صراع الإنسان بين الرغبة والواجب، بين الحلم الفردي والمصير المشترك، الغربة تُعرّي العلاقات وتضعها أمام امتحان واقعي، فتظهر هشاشة الارتباطات حين تكون الأحلام مشتتة، وهو ما أحسن الكاتب في تصويره بلغة لا تُدين أحداً بل تُحمّل الطرفين مسؤولية مشتركة في صناعة الألم.
وفي “صرخة”، نقل الكاتب صور التمرد النبيل في وجه الظلم، لكنّ النهاية جاءت ـ على غير المتوقع ـ نتيجةً لبنية الشخصية المقاوِمة ما أضعف تأثير الرسالة رغم وضوحها. بالمقابل، تبرز “قلب حديد” كقصة عاطفية محزنة، تُعيد تعريف الأبوة والتضحية، غير أن تحديد عمر البطل (في العقد السادس) قلل من أثر المفارقة العاطفية، التي من الممكن أن تكون ذات أثر أكبر لو كان البطل في عمر الثلاثينيات مثلاً.
القصص التي تناولت الشأن الاجتماعي مثل “تحسين ظروف”، و”خطوط الزمن”، و”خسارة ولكن”، و”طعنة في الظهر” كشفت وعياً حاداً بتعقيدات العلاقات البشرية، خاصة في لحظات الاختيار الصعب، حيث أُظهرت هذه القصص قدرة الكاتب على فضح هشاشة بعض القيم الاجتماعية عندما تصطدم بالواقع المعيش.
قصة “انعتاق” حملت طابعاً رمزياً جديداً، قدمت فيه الآلة (الروبوت) كمجاز للإنسان الاتكالي، ليقدّم عبرها أبو رياش نقداً للمجتمع المعاصر الذي اعتاد الاعتماد على الغير حتى في أبسط شؤونه. هنا، كانت لحظة التقاء الذكاء في الفكرة مع طرافة التناول، وجمالية اللغة.
جاءت “مسؤولية ثقيلة” و”سجين الدروب” لتؤكدا نفس الروح الناقدة التي تلاحق المعاني الزائفة، كقيمة الحرية حين تُختزل في شعارات خاوية، أو قيمة الثروة حين تُبنى على أوهام فارغة. أتقن أبو رياش لعبة المفارقة، فيضع قارئه في منطقة التأرجح بين التهكم والحزن، بين الابتسامة المُرّة والسؤال الفلسفي.
“دموع وذكريات” من أكثر القصص شاعريةً وألماً، ترسم ـ بصوت خافت ـ ملامح الوحدة والخذلان في شيخوخة الإنسان، لا نعرف اسم البطلة، لكنها حملت وجع كل الأمهات اللاتي تُركن خلف الأبواب المغلقة. وفي “صفحة بيضاء”، برزت فكرة الزمن والذاكرة، في طرح شبه وجودي حول فقدان الوعي اليومي، لكن السطران الأخيران في القصة حملا عبئاً زائداً على النص. أما قصة “كفوف الراحة”، فهي مثال على القفلة الساخرة التي تُغيّر تماماً من دلالة العنوان والمجريات، وتُبرز ذكاء الكاتب في حبك النهايات الصادمة ذات الطابع الكوميدي السوداوي.
تميز أسلوب موسى أبو رياش بلغة سهلة وراقية، لا يغرق في الرمزية أو الغموض، بل يُعبّر عن أفكاره بوضوح دون تكلف، ومن الواضح أنه يفضّل النهاية المفتوحة أو الملتبسة، لكن في بعض القصص لم تكن النهاية بمستوى التمهيد، كما في “صرخة” أو “خطوط الزمن”. في حين جاءت بعض النهايات صادمة وذكية مثل “كفوف الراحة”.
تُعدّ مجموعة “النداء الأخير” عملاً قصصياً متكاملاً، وقدّم فيها الأدب القصصي بوصفه فناً إنسانياً يُعنى بالأسئلة الصغيرة التي تكوّن تفاصيل الحياة، لقد نجح موسى أبو رياش في نسج مجموعة متماسكة في بنيتها، متنوعة في موضوعاتها، ومؤثرة في مغزاها، كتب وهو الأديب والناقد بحسّ المثقف المتأمل، لا مجرد الراوي العابر.
كاتب اردني
[email protected]