ضياء اسكندر: هل تصبحت سورية ساحة فتن مفتوحة؟

ضياء اسكندر
ليست الإساءة إلى الأديان والرموز الدينية أمراً جديداً على المجتمعات البشرية، فقد عُرفت منذ بدايات التاريخ، حين وُوجه الأنبياء والرسل بالاضطهاد والسخرية والتكذيب من قبل أقوامهم. كانت هذه المواجهات في الغالب نابعة من رفض المعتقد الجديد، أو من خشية المتنفذين على سلطتهم ومصالحهم. لكن في عصرنا الحديث، تحوّلت هذه الظاهرة إلى أداة سياسية موجهة، تُستخدم لتأجيج الخلافات الدينية والمذهبية، وجرّ المجتمعات إلى هاوية العنف والفوضى.
ومع الانتشار الواسع لوسائل الإعلام والاتصال، من الفضائيات إلى شبكات التواصل الاجتماعي، بات بثّ خطاب الكراهية أو المواد المسيئة لا يحتاج أكثر من ضغطة زرّ. هذا الانفجار في تدفّق المحتوى، تزامن مع استغلال جماعات متطرفة وأجهزة مخابراتية لهذه الوسائل، لتأجيج الحساسيات الطائفية، وإشعال بؤر توتر تصبّ في خدمة مشاريع تفتيت أو استقطاب أو حتى انتقام.
لقد شهدنا في العقود الأخيرة عدة أحداث كشفت هذا الاستخدام الممنهج للإساءة، من رسوم الكاريكاتير المسيئة في فرنسا وبلجيكا، إلى فتاوى إهدار الدم ضد كتّاب ومفكرين، وصولاً إلى وقائع محلية مرتبطة بإثارة الكراهية على أسس دينية أو مذهبية.
سوريا.. ساحة فتن مفتوحة
وإذا كانت بعض هذه الأحداث تُستثمر خارجياً، فإن الساحة السورية في السنوات الأخيرة باتت مرشّحة دوماً لانفجارات داخلية ذات طابع ديني أو طائفي، بفعل هشاشة النسيج الاجتماعي، وانهيار منظومات الدولة، وانتشار السلاح والمليشيات.
في الآونة الأخيرة، شهدت سوريا تصاعداً خطيراً في التوترات الطائفية، على خلفية تسجيل صوتي نُسب لأحد مشايخ الطائفة الدرزية تضمّن إساءة للنبي محمد. أثار التسجيل موجة غضب واسعة، تجسدت بداية في جامعة حمص، حيث اندلعت مواجهات عنيفة بين طلاب من خلفيات طائفية مختلفة، وأسفرت عن عدد من الإصابات.
غير أن التطوّر الأخطر تمثّل في الهجوم الذي شنّه متطرّفون من بلدة المليحة على مدينة جرمانا ذات الأغلبية الدرزية، ما أدى إلى اندلاع اشتباكات مسلّحة عنيفة بين الطرفين. سرعان ما اتّسعت رقعة هذه المواجهات لتشمل صحنايا ومحيطها، مخلفةً أكثر من عشرين قتيلاً، ومكرّسةً بذلك مشهداً مرعباً عن هشاشة الأمن الطائفي، واحتمالية انزلاق البلاد إلى دوامةٍ من العنف لا تُحمد عقباها.
هذه الحوادث ليست منفصلة عن سياق أوسع؛ بل تندرج ضمن نمط متكرّر من التوظيف الطائفي للصراعات، حيث يظهر جلياً استعداد بعض الأطراف لتحويل خلاف ديني أو إساءة فردية إلى شرارة تُشعل نار نزاعٍ مسلح يُستثمر سياسياً، أو يُوظّف لإعادة رسم خطوط الانقسام داخل المجتمع.
ورغم صدور بيان رسمي عن وزارة الداخلية ينفي صلة الجهة المنسوبة إليها التسجيل المصوّر الذي أثار التوتر، ورغم الإدانة الصريحة التي عبّر عنها مشايخ عقل الطائفة الدرزية، فإن جماعات متطرّفة سارعت إلى توجيه الاتهام للطائفة بأكملها، رافضة التعامل مع الحادثة كحالة فردية. هذا الموقف يتناقض بوضوح مع الطريقة التي جرى بها التعاطي مع انتهاكات مماثلة ارتكبتها جماعات مسلحة موالية لسلطة دمشق بحق أبناء الطائفة العلوية، حيث كانت تُعامل غالباً على أنها تجاوزات فردية لا تستدعي تعميماً أو تصعيداً.
كيف نواجه هذه الظاهرة؟
إن مواجهة ظاهرة الإساءة إلى الأديان لا تكون بالشعارات ولا بالانفعال المؤقت، بل عبر حزمة متكاملة من الإجراءات الفكرية والاجتماعية والسياسية. تبدأ هذه المواجهة من نشر الوعي الثقافي ومحاربة الجهل والتعصب، وتمرّ عبر إصلاح المناهج التعليمية بما يرسّخ قيم التسامح وقبول الآخر، ويُربّي أجيالاً قادرة على الحوار لا التصادم. كما تقتضي الحاجة إلى تطبيق علمانية عادلة، لا تعادي الدين، بل تحمي حرية المعتقد وتمنع تسييسه أو توظيفه كأداة للفتنة.
وإلى جانب ذلك، فإن محاربة الفقر والتهميش تُعدّ عاملاً حاسماً في تجفيف منابع التطرف، كما أن سنّ قوانين واضحة تجرّم التحريض والكراهية دون المساس بحرية التعبير هو ضرورة لا يمكن تجاهلها. ولا يمكن إغفال دور الإعلام في كبح جماح الخطابات التحريضية، ولا دور رجال الدين المعتدلين والقادة السياسيين في تبديد المفاهيم المغلوطة، فضلاً عن أهمية الحوار بين الأديان وتوظيف الفنون والآداب كجسور إنسانية تعيد الاعتبار لقيمة التعدد والاختلاف.
إنها معركة وعي، لا معركة انفعال، ومسؤولية جماعية تتطلب شجاعة فكرية وإرادة سياسية ومجتمعية واعية.
كاتب سوري