الدكتور طارق ليساوي: على خلفية شريط جمال عبد الناصر: آفة الأمة الإتباع الأعمى وإهمال فضيلة السؤال..

الدكتور طارق ليساوي
أشرت في مقال “غزة توشحت “ثوب الدم” وتنتظر عدل وحكمة ملك الصين ..”، إلى أن الغباء جند من جنود الله، فقرار السلطة الأردنية وقبل ذلك السلطة المصرية والتونسية والسلطات الخليجية بحظر جماعة الإخوان المسلمين، سيدعو جميع أبناء الأمة،وخاصة أبناء جيل مطلع الألفية الثالثة، إلى قراءة تاريخ هذه الجماعة وأدبياتها، وكيف ساهمت وانخرطت بقوة في أولى معارك تحرير فلسطين منذ 1948…ما يحدث في المنطقة العربية ليس مجرد قضية أمنية، بل هو جزء من معركة وعي أكبر.. معركة تحاول فيها الصهيونية أن تفرض روايتها على الجميع، وأن تُسكت كل الأصوات الحرة التي ترفض الاحتلال والتطبيع. وهي معركة علينا أن ننتبه لها جيدًا، لأن نتائجها لا تتوقف عند جماعة أو أفراد، بل تمس مستقبل الأمة، وحقها في مقاومة الظلم والاحتلال…
السؤال نصف العلم
وفي هذا المقال سأتحدث عن أهمية السؤال في فتح أبواب المعرفة وتنمية المدارك والقدرات واستفزاز العقل على حل أعقد المعادلات ذات الصلة بالحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية بل والوجودية..و حديثنا يدعو إلى ضرورة تنشئة “جيل عاقل” يرفض استهلاك الجاهز من الأقوال والأحكام ، ويذهب رأسا نحو البحث عن المعنى والمغزى.. وللسؤال أهمية كبرى في طلب العلم، فالأسئلة مفاتيح العلم، قال الإمام الزهري رحمه الله:” العلم خزائن، وتفتحها المسائل”، وقال الإمام الباقلاني رحمه الله: “العلم قفل، ومفتاحه المسألة بل إن السؤال نصف العلم” ، قال رجل لابن عباس رضي الله عنهما: “بم أصبت هذا العلم ؟ قال: بلسان سؤول، وقلب عقول..”
إن آفة الآفات التي تعاني منها الأجيال الجديدة وخاصه جيل الألفية الثالثة، الإتباع الأعمى و إهمال فضيلة السؤال و التدقيق و التمحيص، فأحيانا نجد أن البعض يضع تدوينة أو مقولة منسوبة إلى علم من أعلام الفكر أو السياسة أو الأدب دون البحث عن مدى صحة نسبها الى هذا العالم او ذاك، و نفس السلوك الخاطئ يسري على باقي المعارف والمعلومات التي يتم طرحها للتداول العام فضلا عن الصور والأشرطة السمعية والبصرية رغم ارتفاع نسب فبركتها وتزويرها وترويجها من طرف جهات مشكوك في أجنداتها وغاياتها جهات مجهولة الهوية والاهداف..
جمال عبد الناصر
اليوم اصبحت -و أصبح الملك لله -على تسريب صوتي منسوب للرئيس المصري الأسبق جمال عبد الناصر ، أثار جدلاً واسعاً وحصد ملايين المشاهدات بعد تداوله على منصات التواصل الاجتماعي، في وقت نفت فيه مكتبة الإسكندرية مسؤوليتها عن تسريب التسجيل على الرغم من حيازتها قانونياً للمقتنيات الصوتية لعبد الناصر..
ويعتقد أن التسجيل المسرب يعود تاريخه إلى العام 1970، خلال حوار دار بين الزعيمين المصري والليبي، ناقشا خلاله ملفات كان وما يزال بعضها ساخناً، أبرزها القضية الفلسطينية وقناة السويس ومواقف بعض الدول العربية من الصراع مع إسرائيل.
وبحسب التسجيل، يظهر صوت الرئيس المصري جمال عبد الناصر منتقداً موقف بعض الدول العربية وخص بينها العراق، متهماً إياها بـ “المزاودة” على مصر دون تقديم دعم فعلي يخدم الفلسطينيين..ويرفض عبد الناصر المطالبات المستمرة لشن الحرب دون أي استعداد حقيقي، خاصة في ظل ما دعاه عبد الناصر “بالتفوق اليهودي عسكريا واقتصاديا وأمنياً”، إلى جانب الدعم الأمريكي. وخلال التسجيل يقول عبد الناصر:
“إن كان في حد عايز يكافح ما يكافح.. إذا كان حد عايز يناضل ما يناضل”.. بينما يؤكد خلال حديثه على ضرورة حل سلمي شامل للصراع العربي الإسرائيلي، مع ضمان استعادة الأراضي المحتلة بعد حرب 1967، فضلاً عن ضرورة إيجاد حل لقضية اللاجئين الفلسطينيين..و يقول أنه “غير معني بالحرب ضد الكيان الصهيوني، وانه مع الخيار السلمي “الاستسلامي” ..
أسئلة أولية
لو كنا اليوم نملك جيلا مهووسا ومسكونا بالسؤال، لما تم لهذا الشريط أن يحقق هذا الانتشار الواسع دون أن ترافقه مجموعة من الأسئلة الأولية والبسيطة من قبيل :من سرب الشريط؟ ولماذا في هذا التوقيت تحديدا الذي تعرف فيه المنطقة استسلام عام وشامل؟ ومن يكون هذا المدعو “جمال عبد الناصر” حتى يتم ترجيح كفة الاستسلام على كفة المقاومة؟ ومن تكون جمهوريه مصر العربية حتى يكون قرار استسلام نظامها بمثابة خيار استراتيجي ملزم لباقي الأمة العربية والإسلامية؟ هذا مجرد مثال وبالمثال يتضح المقال ويفهم المغزى ونستشرف أجوبة السؤال لماذا نقاوم؟ ومن أوصانا بالمقاومة؟ وما هو أفق حركات المقاومة عبر التاريخ؟ ماذا حققت وكم قدمت من الشهداء والتضحيات؟ هل حروب اليوم تشبه حروب الأمس القريب والبعيد؟ ومن يكون العدو الأول للإنسان العربي المسلم؟ هل أهل الكتاب أم المشركين أم المنافقين أم الجهل وتقديس الأسماء والزعامات واستهلاك الجاهز من الأخبار والمعلومات ؟
آن الأوان للعودة إلى فضاء وفضائل السؤال: من نكون؟ ومن أين ؟ وإلى أين؟ ومع من؟ ..و هذا السؤال الأخير ” مع من؟” يروق لي أن أتوقف عنده وأن أعمق البحث فيه، لأنه السؤال الأقرب للقلب و العقل، حيث يقول معظم المغاربة في أحاديثهم اليومية الشائعة “ما كاينش مع من ؟ ” وان الجميع يجيب بجواب “بني إسرائيل” الشهير: (فَاذْهَبْ أَنتَ وَرَبُّكَ فَقَاتِلَا إِنَّا هَاهُنَا قَاعِدُونَ)..
إن معظم الأسئلة المطروحة اليوم على كل انسان عربي، مسلم، راشد، وعاقل ، نستطيع أن نجد لها إجابة و الاتفاق حولها، لكن السؤال الذي يؤرق فعلا كل عاقل وفاضل، هو مع من يستطيع تحقيق أحلامه وتطلعاته وترجمة مطالبه المشروعة على ارض الواقع؟!
فلم يكن سيدنا محمد بن عبد الله عليه الصلاة و السلام، لينجز ما أنجزه أثناء و قبل البعثة النبوية، لولا ملكة السؤال وحرقة البحث عن الإجابات ..وهو نفس منهج سيدنا ابراهيم عليه السلام، وكيف أن السؤال قاده الى اكتشاف طريق الهدى وطريق الله..
إبراهيم عليه السلام
و سنروي لكم قصة سيدنا إبراهيم عليه السلام الباحث عن الحقيقة ، فقد كان نمرود بن كنعان ملكاً على بابل.. وكان أهل هذه المدينة ينحتون أصناماً يتقرّبون إليها بالعبادة.. أما ملكهم نمرود فكان يدعي الربوبية، فطلب من قومه أن يتخذوه إلهاً..
وفي هذه البلاد ولد إبراهيم لأبيه “آزر”، وهكذا فتح الصغير عينيه على قوم اتّخذوا الأصنام أرباباً من دون الله.. وكان آزر نحّاتاً، يصنع لقومه التماثيل والأصنام.. فكان داعيةً لها، ولكنّ إبراهيم، بما آتاه الله من نور في قلبه، توصل الى الإيمان، بالفطرة التي فطر الله الناس عليها، بأن لهذه الأرض ومن عليها، والسماء التي تزينها الكواكب والنجوم، رباً خالقاً، وحكيماً مدبّراً، وإلهاً صانعاً أتقن خلق كل شيء.
ولطالما كان يتأمّل في الليل نجوم السماء وكواكبها والقمر وفي النهار يتأمل الشمس، باحثا عن الله في كل مكان، ليكتشف في الأخير أن هناك خالقا واحدا لكل هذه الكائنات، ويتبرأ مما يعبد قومه من أصنام لا تنفع ولا تضر، ويشفق على قومه إشفاقا مما يعبدون من دون الله عز وجل..وليوجه وجهه في الأخير لفاطر السماوات والأرض ويبتعد عن المشركين.
يقول الله تعالى : { وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75) فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَا أُحِبُّ الْآَفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79) } (سورة الأنعام).فالله تعالى حين تتوفر هذه الرغبة الجامحة في المعرفة وفي التغيير والإصلاح يبعث من يعين على سلك هذا الدرب الصعب، فنجح إبراهيم عليه السلام في مسعاه ، و نفس الأمر ينطبق على رحلة سيدنا محمد عليه الصلاة و السلام ..
محنة الطائف
فلقد كانت خديجة رضي الله عنها على سبيل المثال، عونا وسندا لسيدنا محمد بن عبد الله عليه الصلاة والسلام الباحث عن الحقيقة، الشغوف بالمعرفة، الصادق في نقلها، الأمين على تنزيلها.. فرغم أميته عليه الصلاة والسلام، كان صدقه في الطلب، كفيلا بمباركة السماء لسعيه وجهده، كما أكرمه الله تعالى بصديق صدوق أعانه في حمل أعباء الرسالة ونشرها، فضلا عن العشرة المبشرين بالجنة، وعصبة الأنصار والمهاجرين، فالنبي عليه الصلاة والسلام عانى من فقدان السند وغياب العون في مواجهه جنود وجيوب مقاومة التغيير على حد تعبير الأستاذ عبد الرحمن اليوسفي رحمه الله، او “العفاريت والتماسيح” على حد صاحب العكاز السيد بن كيران غفر الله لنا وله …
فقد عانى سيدنا محمد بن عبد الله القائم بأمر الله من تكالب الأعداء وقصور همة ذوي القربى.. وتذكر كثير من كتب السير أن قريشاً لمّا زاد أذاها للنّبي -صلى الله عليه وسلم- واشتد صدودها عن دعوة الإسلام خرج إلى الطائف يدعو أهلها -ثقيف- ويرجو إسلامهم ونصرتهم على الحق، لكنهم لم يجيبوه إلى طلبه، وأنكروا عليه ما دعاهم إليه. وازداد الكرب وعظُمت المِحنَة على النبي -عليه الصلاة والسّلام- حين أغروا به سفاءهم وصبيانهم، فسبّوه وألقوا عليه الحجارة حتى أدموا قدميه، وغادر النبي الكريم الطائف مكروباً حزيناً مُتعباً، وعندما وصل إلى بستان لعتبة بن ربيعة جلس في ظل شجرة، ثمّ أخذ يدعو بهذا الدعاء: (اللهم إليك أشكو ضعف قوتي، وقلة حيلتي، وهواني على الناس، يا أرحم الراحمين، أنت رب المستضعفين، وأنت ربي، اللهم إلى من تكلني؟ إلى بعيد يتجهمني، أم إلى عدو ملكته أمري؟ إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، غير أن عافيتك أوسع لي، أعوذ بنور وجهك الذي أشرقت به الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا والآخرة، أن ينزل بي سخطك، أو يحل علي غضبك، لك العتبى حتى ترضى ولا حول ولا قوة إلا بالله)..
منحة الإسراء و المعراج
و بعد هذه المحنة أكرم الله تعالى نبيه عليه الصلاة و السلام ، برحلة سياحية وعلمية الى السماء السابعة، رحلة تاريخية فريدة و مكسرة لعامل الزمكان، ومتخطية و عابرة و متجاوزة لحدود العقل البشري، ألا وهي رحلة الإسراء والمعراج، والتي انطلقت ليلا من مكة المكرمة الى المسجد الأقصى، حيث صلى النبي محمد عليه الصلاة والسلام بأنبياء الله ورسله ،ومن هناك عرج عبر البراق الى السماء السابعة ووصل الى سدره المنتهى..
هذه الرحلة أجابت عن كل أسئلة النبي صلى الله عليه وسلم ذات الصلة بالماضي والحاضر والمستقبل، وكان في الإمكان أن تبقى هذه الرحلة طي الكتمان، لكن في إذاعتها ونشرها وإخبار الخاص والعام بها، تعليم للبقية واختبار أخر لرفاق المعركة، وكان أول الناجحين في هذا الاختبار وبميزه مشرف جدا الصديق أبو بكر، ولذلك استحق هذا اللقب، ودليل ذلك ما رُوي عن السيدة عائشة -رضي الله عنها- حيث قالت: “لما أُسرِيَ بالنبيِّ إلى المسجدِ الأقْصى ، أصبح يتحدَّثُ الناسُ بذلك ، فارتدَّ ناسٌ ممن كانوا آمنوا به ، و صدَّقوه ، و سَعَوْا بذلك إلى أبي بكرٍ ، فقالوا : هل لك إلى صاحبِك يزعم أنه أُسرِيَ به الليلةَ إلى بيتِ المقدسِ ؟ قال : أو قال ذلك ؟ قالوا : نعم ، قال : لئن كان قال ذلك لقد صدَقَ ، قالوا : أو تُصَدِّقُه أنه ذهب الليلةَ إلى بيتِ المقدسِ و جاء قبل أن يُصبِحَ ؟ قال : نعم إني لَأُصَدِّقُه فيما هو أبعدُ من ذلك ، أُصَدِّقُه بخبرِ السماءِ في غُدُوِّه أو رَوْحِه ، فلذلك سُمِّي أبو بكٍر الصِّديقَ”..
محنة غزة
وما أحوجنا اليوم ليقين الصديق ، و ما أحوج غزة ومقاومتها الباسلة إلى تصديق الصديق لصدق صاحبه، واصطفافه المطلق بجانبه، غزه اليوم وابناء المقاومة على وجه الخصوص، في حاجة الى من يصدق يقينهم في خوض معركة التحرير الشامل لأرض فلسطين من النهر الى البحر، وفي صدق انتفاضتهم الخالدة في ليلة 7 اكتوبر 2023 ، غزة اليوم تعاني كما عانى النبي صلى الله عليه وسلم من ضعف السند والدعم، وتحاول جاهدة البحث عن من يدعمها في معركتها، في مواجهة عدو غاشم، لكن لم تجني من جوارها إلا ما جناه الرسول صلى الله عليه وسلم من أهل الطائف…و حتى لا أطيل عليكم سأرحل ما تبقى من تفصيل للمقال القادم إن شاء الله تعالى .. و الله غالب على أمره و لكن أكثر الناس لا يعلمون ..
كاتب و أستاذ جامعي من المغرب