ماذا لو؟

 

 

أ.د. طالب أبو شرار
في حواراتهم يلجأ الكثير منا الى طرح تساؤل بديل: ماذا لو؟ هم يقصدون ماذا لو لم تجر الرياح بما تشتهي السفن؟ ما هو البديل المتاح؟ يطرح العقلاء مثل هذا التساؤل ايمانا منهم باحتمال حدوث طارئ يعقد المشهد المرسوم مسبقا مما يستدعي تغيير المسار. كل العقلاء يحتفظون ببدائل وليس بديلا وحيدا لضمان تحقيق الأهداف المرجوة. لأختصر عليكم الرواية، قامت الدنيا ولم تقعد بعد مجزرة مخيمي صبرا وشاتيلا في 16 أيلول من العام 1982 والتي نفذها الجيش الإسرائيلي بالتعاون مع عملائه من حزب الكتائب اللبناني وجيش لبنان الجنوبي على مدار ثلاثة أيام ذبحوا خلالها النساء والأطفال والمدنيين العزل من اللاجئين الفلسطينيين والمواطنين اللبنانيين الفقراء بلا أدنى اعتبار انساني. وعقب انتشار أخبار المجزرة، نظمت حركة “السلام الآن” الإسرائيلية مظاهرات احتجاج على المجزرة شارك في أكبرها نحو 400 ألف إسرائيلي. وبسبب تلك المظاهرات وفي الأول من تشرين ثاني من نفس العام، أمرت الحكومة الإسرائيلية المحكمة العليا بتشكيل لجنة تحقيق خاصة وقرر رئيس تلك المحكمة، إسحاق كاهان، أن يرأس اللجنة بنفسه. وعليه، سميت تلك اللجنة بلجنة كاهان. وفي السابع من شباط من العام التالي، أعلنت اللجنة نتائج تحقيقها وقررت اعتبار وزير الدفاع الإسرائيلي، أريئيل شارون، مسؤولا بشكل مباشر عن المذبحة إذ، حسب ادعائهم، تجاهل إمكانية وقوعها ولم يسعَ الى الحيلولة دون حدوثها. بالإضافة، انتقدت اللجنة رئيس الوزراء مناحيم بيغن ووزير الخارجية إسحاق شامير ورئيس أركان الجيش رفائيل ايتان وقادة المخابرات مبررة موقفها بأنهم لم يقوموا بما يكفي للحيلولة دون المذبحة أو لوقفها عندما تناهت الى أسماعهم أخبارها.
منذ نحو عام ونصف تجري مذبحة مرعبة في قطاع غزة تفوق في حجم خرابها ودماء شهدائها ما جرى في صبرا وشاتيلا بألاف المرات. لكن لم يَدعُ إسرائيليٌ واحد الى مظاهرة احتجاج استنكارا لذبح المدنيين المستمر وتجويعهم وتفجير بيوتهم ومستشفياتهم ومؤسساتهم المدنية والتعليمية وترحيلهم من بقعة الى أخرى بلا مأوى أو ترتيبات أمنية فيذبحون من جديد في خيامهم الممزقة وعلى طرقات النزوح بين هنا وهناك ويتركون بلا إسعاف أو علاج أو دواء. بالمقابل، تخرج بشكل دوري مظاهرات حاشدة تطالب الحكومة الإسرائيلية بعقد صفقة تبادل لإطلاق سراح جنودهم الأسرى. يأتي هذا المطلب الوحيد وكأن أولئك الأسرى المعدودين هم شاغلهم الأكبر وأن قتل الفلسطينيين على أيدي جنودهم المجرمين لا يعنيهم ألبتة. عشرات الآلاف من الشهداء والجرحى والمكلومين والجوعى والمشردين لا يشغلون بالهم بل هم معنيون بثلاثين أو خمسين أسيرا فقط. ورغم معرفتي الأكاديمية بوحشية الأيديولوجية الصهيونية، يجوز أن نتساءل عن ماهية هذا التحول نحو الهمجية المتوحشة في تلك العقلية الجمعية. لماذا أصبح الجميع وحوشا متعطشة للدماء؟ لماذا يغفلون استنكار العالم لأفعالهم التي ترتد سلبا على صورتهم المزيفة والتي روجوا لها منذ بدايات الحركة الصهيونية الاستيطانية في فلسطين؟ ضمن جملة أسبابٍ تحتاج الى معالجة منفردة، أستطيع القول بأن أحد أهم الأسباب التي أوصلتهم الى هذا الجنون هو الطوفان الذي اكتسح عقيدتهم القتالية والوجودية. لقد انهارت تلك العقيدة في ساعات قليلة في السابع من تشرين الثاني 2023. ولأنهم يعيشون على حد السيف، هم يريدون الثأر الدموي الذي يرجع لهم صورتهم المتشظية. لسانُهم وحالُهم يكرر باستمرار: نحن سادة المنطقة العربية والإسلامية ولن نسمح لأي قوة صاعدة بتحدي هيمنتنا المطلقة على تلك الديار.
 ولأننا لسنا مثلهم غير طارئين على جغرافية وتاريخ أوطاننا التي ننتمي اليها، أعود الى طرح التساؤل المبكر: ماذا لو انعكس الحال فأصبحوا هم الضعاف ونحن الأقوياء؟ هل سنبطش بأبنائهم وبناتهم وأطفالهم ونسائهم كما يفعلون بأهلنا في غزة؟ لا أقول أكاد أجزم بل أجزم أننا سنوفر الرعاية والدفء لأطفالهم وللمغلوبين على أمرهم من أسراهم. لم يعلمنا تاريخنا الطويل أن نتحول الى وحوش في عداواتنا مع الآخرين بل حثنا على رعاية الضعيف وإطعام الأسير لا تجويعه. سلما أو حربا، نحن لن نتعامل معهم بأخلاقهم بل بأخلاقنا وقيمنا الإنسانية السامية. هم ليسوا نموذجا يحتذى به بل عار لا بد من محوه من سجل البشرية. قد يقول البعض أن انقلاب المواقف بعيد المنال لكني أراه في الأفق الشاخص أمامي واضحا تماما فالعالم كله يشك في بقاء هذا الكيان المأفون والذي خسر كل التعاطف الإنساني الذي تمتع برعايته لعقود عديدة. هم يتأكلون من الداخل وأصبحوا مفضوحين أمام الجميع: عنصريون واستيطانيون في بلاد الغير وبرابرة متعطشون للدماء!
مفكر عربي