سورية: الرمزيات الكاشفة وجمالية الأقلية

سورية: الرمزيات الكاشفة وجمالية الأقلية

 

 

د. هيثم علي الصديان

إنّ مفهوم الأقليّة ليس في حقيقته مفهومَ طوائف وطائفيّةٍ، بل هو اليوم مفهومُ وطن ووطنيّة، كما كان مفهومَ حقّ وأحقيّة.. فأيّام الأسد لم تكن الأقليّة هي المكونات غير السنيّة في مقابل السنيّة الأكثريّة… إنّما كانت الأكثريّة هي الفئة المؤيّدة للأسد على اختلاف طوائفها، التي كانت تملأ السّاحات بالملايين تأييداً لقائد الوطن والمسيرة.. والأقليّة هم الأحرار الذين كانت مظاهراتهم تقتصر أحياناً على عدد أصابع اليدين.
 الأكثريّة كانت مكوّنات الجيش العربيّ السّوريّ الذي ظل ثلاث عشرة سنة يحارب “الإرهابيّين”[ كما  كان يحبّ أنّ يسمّيهم] ويدكّهم هم وعائلاتهم، أطفالاً وشيوخاً ونساء، ومدنهم بالبراميل وغير البراميل.
الأكثريّة هي تلك الملايين المؤيّدة، التي تبخّرت اليوم، وصارت تُقسم أنّها كانت ضمن الحشود الثّورية العشريّة، وأنْ لا علاقة لها بمليونيّات القائد.

الرّمزيّات الكاشفة:
لكنّ المؤيّد السّابق مهما تبرّأ من تاريخه وأكثريّته، فإنّ حاضره يكشفه في معلنه ومضمره وصريحه ولحن خطابه.
فلن تجد حرّاً من الذّين زيّنوا ساحات الوطن بتظاهراتهم، حين كان يتباهى الأسد بحشوده المليونيّة، التي كلّ مظاهرة منها تفوق الأقليّات مجتمعةً… لن تجد ثائراً من هؤلاء[ وهم وحدهم الثّوار] يقبلُ من نظامنا الرّاهن ما كان يرفضه من الأسد..
فحين زعم مخلوف (أنّ أمن إسرائيل من أمن سوريا)، وحدهم الثّوار الذين أقاموا الدّنيا ولم يقعدوها… أمّا الأكثريّة بالأمس فهي عينها أكثريّة اليوم التي باركت علناً أو صمتاً قول مخلوف، كما تبارك اليوم ما قاله نظامنا الجديد صراحة وبالفم الملآن في مجلس الأمن: (” وقد أعلنا مراراً بأن سورية لن تشكّل تهديداً لأي دول المنطقة والعالم[قالها هكذا] بما فيها إسرائيل”). إنّها الأكثريّة وإنّه ديدنها؛ لا فرق بين قديم وجديد. إنّها الأكثريّة التي تخوّن الأسد بوصفه حامي حدود إسرائيل، وتبارك في الوقت ذاته نهج نظامنا الجديد المعلن تجاه إسرائيل.
الأكثريّة هي التي سكتت حين قال الأسد:( إن السّوري ليس من يحمل جواز السّفر السّوري، بل من يدافع عن الوطن). واليوم هي ذاتها تبارك خطوة منح الأجانب الجنسية السّورية، بحجّة أنّهم هم من حرّر البلد…(حتى هذه المباركة ليست عن حسن نيّة، بل لأنّهم يريدون أن يحرموا الأقليّة الثوريّة من فضل إسقاط الأسد). والأكثريّة ديدنها سوء النيّة فهو أساس فطنةٍ وأخلاقُ معاملةٍ في عرفها.

لكنْ…مهما فعلت وادّعت هذه الأكثريّة، فكلّ خطوة تخطوها وكلّ كلمة تنبس بها، هي رمزيّة كاشفة على أنّها كانت هي الأكثريّة الأسديّة.
لا شيء عشوائي وغير مقصود…. إنّ الأكثريّة تريد أن تجعل مفهومي الأكثريّة والأقليّة مفهومين طائفيين؛ ليس حبّاً بالطائفيّة أو بغضاً بالآخر، وإنّما هو دجلها وحقدها المزدوج: دجلها؛ إذ تريد أن تلصق عار أسديّتها بالطوائف. وحقدها على الأقليّة الحقيقيّة التي رفضت الأسد وأعلنت أنّها لن تقبل به وبأشباهه، يوم كانت الأكثريّة تهتف باسمه الرّنّان.
الأقليّة بهذا المفهوم الجميل هي رمز الوطنيّة والحريّة. وهو المفهوم الذي سيدافع عنه أصحابه، وهم وحدهم من يعوّل عليهم في نجاة هذا البلد…
ولذلك حين نقول إنّ مظاهراتهم كانت تقتصر أحياناُ على العشرات، هذا التأكيد على القلّة تفهمه الأكثريّة الأسديّة على أنّه سُبّة ومنقصة؛ لأنّ مفهوم الجمال لديها مفهوم كمّي وليس نوعيّ… في حين أنّ الأحرار وحدهم عاشوا وعرفوا جمال أن تكون قليلاً، محاطاً بحصار أكثريّة نظام من أعتى أنظمة العالم تجبّراً… إنّهم وحدهم من ذاقوا حلاوة أن يصرخوا في وجه نظام الأسد، ولو كانوا كعدد أصابع اليد الواحدة، حين كانت الملايين تتندّر بقلّتهم، وتتهوّشهم من كلّ جانب.
لا شيء عن عبث وطيب نيّة في تحويل مفهوم الأقلّية إلى مفهوم طائفيّ…. والأحرار أولى من الطّوائف الأخرى بالوقوف في وجه هذا التّوجّه الخبيث، الذي يريد أن ينزع عن تلك الأقليّة الحقيقيّة جمالها ورمزيتها.
الأحرار وحدهم هم الأقلّية… كانوا أقليّة أيام النّظام السّابق، واليوم هم أقليّة كذلك… والله وقرآنه ورسوله وعُمَرُه، كلّهم يقولون: إنّ الحقّ والجمال والخير قيمٌ مربوطة بالأقليّة، أنّى توجّهت وإيّان وُجدت… ولهذا استوقف عمرَ بنَ الخطّاب دعاءُ أحدهم: “اللهم اجعلني من عبادك القليل”.
تلك التي تسلك سبيل الحقّ ولا يضرّها قلّة السّالكين، وتأنف عن سبيل الرّدى رغم كثرة المُبطلين المطبّلين. فمفهوما الأكثريّة والأقليّة مفهومان قرآنيّان وأخلاقيّان وجماليّان وإلهيّان… أبديّان، ولن تجد لسنّة الله تبديلا.
لعبة القطّ والفأر:
تلعب سلطتنا الرّاهنة مع حاضنتها السنيّة التي ظلّت مستقرّة في مناطق النظام السابق لعبة القطّ والفأر…. فهي تتّهمها ضمناً وتلميحاً بخيانتها: بالصّمت وبالرّكون إلى النّظام وبمشاركته في قتل الأبرياء وبتدمير المدن وبإعطائه شرعيّته الإجراميّة[وهو اتّهام فيه كثير من الصّحة]….  تتّهمها في مقابل تمرير ما تريده من الاستحواذ على سلطة مطلقة في حكم البلاد(وهذا ينسجم مع مبادئها التي تحرّم الديمقراطية وترفض تداول السّلطة).
والحاضنة تفهم هذا التّلميح، وقد ابتُليت بشيء من الخوف، مخلوط بالطّمع وطموح الوصوليّة، وتفهم جيداً وتعرف يقيناً أنْ لا مكان لا للديمقراطية ولا لتداول السّلطة(وهي أصلاً لم تثُر ولم تكن تطلب من الأسد ديمقراطيّة ولا تداولاً، فلا تعنيها هذه الأشياء لا من قريب ولا من بعيد) فتغافلت واستجابت للعبة، وأخذت صكّ براءتها مقابل مباركة كلّ أفعاله وطموحاته، حتّى لو كان لمثلها خرج الثّوار على الأسد، ولمثلها خوّن الأسد.
فهي أشياء لم تك تعنيهم سابقاً، ولن تعنيهم لاحقاً. كلّ ما حصل أنّهم صاروا يباركونها كما كانوا يباركونها زمن الأسد، وصاروا يلصقون جرائر الكون كلّها بالأسد، كما كانوا يلصقونها بخصوم الأسد….
هكذا يلعب القط والفأر، والوطن قطعة حلوى بينهم…. وهم يعلمون أنّ هذا الوطن ذاهب إلى التّقسيم وإلى مزيد من التفكّك.
أبستمولوجيا الأفضليّة:
تروي كتب التّراث أنّه حين كان يرى عمرُ سلوكاً أو سياسة راشدة لأبي بكر، كان يردّد عبارتَه المعروفةَ: “أتعبتَ الخلفاء من بعدك”. ويقال إن عليّاً قالها في عمر كذلك.
لكنّ شعوب الاستعباد والنّفاق مصرّة على إراحة الخلفاء والحكّام، بإعطائهم صكَّ براءةٍ مطلقاً، على أنّ سلفهم ليس كمثله شيء في السّوء، فاصنع ما شئت إنك بأعيننا.
فيلاحظ أنّ العصور التي تبني روايتها على أنّ السّابق فيها أجدى بالقدوة من اللاحق، فإنّه يكون عهداً تصاعدياً في النّمو والتّطور والقوّة.
والعصور التي يكون فيها اللاحق أفضلَ من سابقه، يكون عصراً انحداريّاً في كلّ مظاهر الحياة، اجتماعيّاً واقتصاديّاً وسياسيّاً وعسكريّاً.
والأنموذجان، السّابقينِ، شاهدان.
ولهذا فإنّ للتاريخ فلسفتهُ المختلفةَ في التّفضيل عنها في الأصول والعقيدة. وعليه؛ فإذا كانت السّردية الإسلاميّة في سلّم التّفاضل جرّت خلْفها خلافاً أصوليّا ومذهبيّاً سلبيّاً، فأنّها كانت لها نتائجُها الحضاريةُ الإيجابيّةُ أبستمولوجيّاً.
فمتى وجدْتَ أمةً تنمو تجد أنّها تعطي السّابق، جيلاً وأفراداً وزعاماتٍ، أفضليّةً اعتباريّةً على اللّاحق واللواحق.
وحين تجد أمّةً تضعفُ وتضمحلُّ اعرفْ يقيناً أنّها تلعن سابقها وتمجّد حاضرها الذي ستلعنه عمّا قريب.
فالأمّة في طور التّصاعد تبني سرديتها على اعتبارات أخلاقيّة تربويّة. وهي في طور الاضمحلال تبني تلك السّردية على  مراعاة الغايات الوصوليّة، خاليةً من كلّ اعتبارٍ لوجود الأمّة أو الدّولة أو الاجتماع، وإنّما على أساس الخلاص الفرديّ، القائم على تصوّر ثنائيّتي الضّياع والخلاص، أو المكسب والخسارة، والغنيمة والتّجارة…
ولهذا نحن نرفض أن نضع على كاهل الأسد كلّ موبقات الأرض، ليس دفاعاً عنه؛ فما فعله واقترفه جدير بتجريمه وإسقاطه، لكنّا لا نريد أن نرمي عليه كلَّ ما يخطر في البال السّياسي، لسببين: الأوّل أنّ رفع سقف الموبقات يخفّض السّقف الأخلاقيّ للشعب؛ إذ يظهره هذا السّقف المرتفع لجرائر الأسد وأفعاله على أنّه شعب مستكين لا تحرّكه كرامته إلّا لأعظم الفوادح. وأمّا السّبب الثّاني والأهم: فإنّ رفع سقف موبقات الأسد لا يُراد منه تحقير الأسد، بقدر ما يُراد منه إراحة مَن يخلفه، وإعطاؤه بحبوحة من حريّة افعل ما شئت فإنّك لن تبلغ مبلغ جرائر الأسد، فأنت أفضل منه وستظلّ أفضلَ منه، وستبقى دون السّقف الذي يحرّك كرامة الشّعب وغضبه.
كاتب سوري