سورية: ازدواجية البنادق في السويداء

سورية: ازدواجية البنادق في السويداء

 

سعد الدالاتي

مشهد مُفجع… شيخ  يختبئ خلف دولة احتلال

لم تكن السويداء يومًا على هامش سوريا، لكنها اختارت الهامش بمحض إرادتها. فمنذ سقوط النظام السوري أواخر عام 2024، كان يُنتظر من المحافظة أن تفتح صفحة وطنية جديدة، فتستقبل الدولة كما تستقبل فرصة الإنقاذ، لا كما تستقبل عدواً. إلا أن ذلك لم يحدث. خرجت البنادق من مخابئها، وارتفعت الشعارات من جديد: “الدولة لا تمثّلنا، ولن يدخل أحد أرض الكرامة”.
لكن أي كرامة هذه؟
الكرامة التي تُترجم اليوم بحواجز على الطرقات، وشباب ملثّم يحمل السلاح دون صفة قانونية؟ الكرامة التي تطلب حماية دولية ( احتلال ؟) ومطالبة إسرائيل بالتدخل كيف عجزت عن التفاهم مع السوريين واستطعت تشكيل حب حقيقي مع دولة الاحتلال ؟ ناهيك عن عجز الدولة، وتناقض الشيوخ، وصمت من كان يدّعي يومًا أنه “حامي الجبل”؟

بنية فصائلية متفجرة: من الحماية إلى التحكم
الحقيقة التي تخشاها البيانات الرسمية والبيانات الشعبية معًا هي أن السويداء اليوم يحكمها منطق الفصائل، لا منطق الدولة. هذه الفصائل، التي وُلدت في سنوات الحرب بذريعة الحماية، تحوّلت إلى قوة أمر واقع، تحتكر السلاح، وتختزل القرار، وتفرض على الدولة حدودها، وعلى المجتمع صمتَه القسري.
من المسؤول؟
ليست الفصائل وحدها. بل النخب التي صمتت، والمجتمع الذي وافق، والشيوخ الذين بعثروا السلطة الرمزية للطائفة، فتاهت البوصلة بين شيخ العقل وشيخ الأرض، بين صوت الدين وصوت السلاح.

لماذا رُفض الجيش؟ سؤال لا يريد أحد أن يجيب عليه

 

منذ الأيام الأولى لسقوط الأسد، لمّحت قيادات في السويداء للانفصال عبر رفض الدولة وتهديدها بالسلاح ورفع شعارات الاستقلال
عندما سقط النظام، كان من الطبيعي أن تعود مؤسسات الدولة إلى جميع المدن السورية، لا كقوة احتلال، بل كأداة لإعادة الحياة. لكن في السويداء وحدها، رُفض الجيش السوري. لم يُسمح لقوات الدولة بالدخول، ولم يُمنح الأمن فرصة فرض الاستقرار. بل صدرت تهديدات صريحة من شيوخ ووجهاء بأن “أي قوة ستدخل سيتم التعامل معها بالسلاح”.
هذه ليست مسألة رأي، بل قرار استراتيجي كارثي اتُّخذ باسم الطائفة، وأُلبِس ثوب “الخصوصية”. وكأن السويداء خارج الجغرافيا السورية، وكأنّ لها الحق في أن تنتقي أدوات الدولة كما تشاء.
لكن عندما وقعت الاشتباكات بين الفصائل ذاتها، وعادت الفوضى لتنهش المدينة، من طُلب للمساعدة؟ الكيان الصهيوني.
أي عبث هذا؟ ترفض الدولة مهما كانت من سوء هل يدفعك لطلب النجدة من جزار حقيقي وفي هذا الوقت ودماء الغزيين لم تجف بعد ؟

السلاح الصامت حين كان الوطن يصرخ

الازدواجية القاتلة تكمن هنا:
كل هذه البنادق التي تتناسل في شوارع السويداء اليوم، أين كانت حين كانت المجازر تُرتكب باسم الأسد؟
أين كان صوت الطائفة، حين كانت البراميل تسحق الغوطة، والمجازر تطحن درعا الجارة؟
كيف لم يخرج شبّان الجبل إلى معركة واحدة حقيقية مع النظام، وهم يزعمون أنهم “جزء من المعارضة”؟
وإذا كانوا معارضين فعلًا، فلماذا لم تُفتح جبهة الجنوب حين كان يمكن لها أن تُغيّر ميزان المعركة؟
الجواب واضح:
الطائفة اختارت الحياد حين كانت الثورة مشتعلة، ثم اختارت السلاح حين أصبحت وحيدة.
لكن من يرفض الموت مع الشعب، لا يملك الحق أن يفرض شروط الحياة على الدولة.

وهم الهوية… وفخ الخصوصية

يحب البعض ترديد عبارة “السويداء لها خصوصيتها”، وهي عبارة قد تُستخدم للتبرير أكثر مما تُستخدم للفهم.
الخصوصية لا تعني الاستثناء من القانون، ولا تعني بناء جيش داخل الجيش، ولا فرض منطق العشيرة أو المرجعيات التقليدية على حساب الدولة الحديثة.
ما يحدث اليوم في السويداء ليس “ثورة داخل الثورة”، بل ميليشياوية مقنّعة بثياب محلية.
وما يُنذر بالخطر هو أن هذا المنطق يتمدد داخل مجتمع صغير، متماسك، يمكن أن ينفجر من الداخل بسرعة هائلة إذا لم يُتدارك الأمر.

عجز السلطة: الفوضى الأمنية وتنازلات الحكم

تقية إدارة الحكم وتقديم التنازلات لم تعد مجرد خيار تكتيكي بل أصبحت خطًا سياسيًا استراتيجيًا أدى إلى تصدع قدرة الدولة على التحكم في مفاصل الأمن الداخلي. النظام السوري، في محاولة مستمرة لفرض التوازن بين القوى الإقليمية والدولية، فقد السيطرة الأمنية بشكل تدريجي، وأصبح الفلتان الأمني هو السمة الغالبة في العديد من المناطق. ففيما يتعلق بالوضع الكردي، النظام لا يستطيع التحرك ضد قسد بسبب الخوف من ردود فعل أميركية قد تؤدي إلى تعقيد الموقف العسكري والسياسي في الشمال السوري. ومن جهة أخرى، فإن الوجود الروسي في الساحل السوري أصبح سيفًا مسلطًا، إذ يخشى النظام من تصعيد غير محسوب مع فلول الساحل الذين يرفعون شعار المقاومة، مما قد يعرضه لضغوط روسية شديدة.
وفيما يتعلق بالصراع الإقليمي الأوسع، لا يجد النظام نفسه قادرًا على مواجهة التحديات الأمنية التي تفرضها إسرائيل، وذلك خشية أن يكون أي تصعيد مع تل أبيب ذو تداعيات كارثية، سواء على الصعيد العسكري أو السياسي. هذه الديناميكية المعقدة أدت إلى تكاثر الفصائل المسلحة، التي تُمثل أجندات متناقضة داخل سوريا، بينما يبقى النظام عاجزًا عن فرض سلطته عليها أو إيقافها، مما جعل المشهد السوري أقرب إلى الفوضى الموجهة التي لا يُمكن التحكم فيها أو احتواؤها.

السلاح بيد واحدة هو الحل

لا يمكن أن تقوم سوريا الجديدة إذا استمرّت السويداء على هذا النهج.
ولا يمكن أن تكون هناك طائفة فوق القانون، وفصائل خارج الدولة، وقيادات تبرّر التمرّد باسم “الكرامة”.
الكرامة الحقيقية لا تعني رفع السلاح في وجه الجيش، بل تعني المطالبة بدولة عادلة واحدة، وسلاح واحد، وقانون يحمي الجميع.
من لا يرى ذلك، فهو لا يطلب الحرية، بل يطلب دويلة.

 صحفي ومدون سوري